لست مقتنعاً تماماً بالتفسيرات المقدمة لتهجير الأقليات بمسألة التعصب والبدائية فقط، بسلوكيات تنظيم الخلافة في العراق والشام. وأنوي هنا أن أمر بعجالة على حالات مختلفة من حالات تهجير حصلت في بلادنا وأسبابها الاقتصادية والأمنية، لا لنبررها ولكن لنفهم دوافعها المادية والإبادة بدل التفسيرات الثقافوية السطحية.
وسأركز هنا على مسألتين أساسيتين هما كيفية نظر السلطات لأبناء الرعية المخالفة عقيدتهم لعقيدة الحكام من الناحية الاقتصادية أولاً والأمنية ثانياً. وكيف أن السلطة الإسلامية نظرت في مختلف مراحلها لأهل الذمة خصوصاً المسيحيين كمصدر أساسي للجزية والخراج. وكيف أن الظروف ساعدت الكثير من المسيحيين لأن يتحولوا لرعية نشيطة ومنتجة ففضلهم العثمانيون في بعض الأحيان على المسلمين.
ولكن يرجى ألا يفهم من ذلك أننا نؤكد المقولة الاستشراقية البلهاء بأن المسيحيين هم منارة المشرق ودونهم البرابرة. فالأمر ليس كذلك ولكن ظروفاً معينة وقوانين ومؤسسات توفرت للمسيحيين في المشرق والمسلمين في المغرب لأن يكونوا مجتمع نشيط ومنتج ما جعلهم عرضة لقوانين وحسابات الصراع الدولي آنذلك والذي يتعدى مسألة الانفتاح والظلامية.

مذابح داعش

لم تقدم تفسيرات ولا دراسات مقنعة بعد للسبب الذي دفع داعش لتهجير المسيحيين والتركمان والأيزيديين والكرد. ففضلاً عن التعصب والضحالة الفكرية لهؤلاء، تطرح أسئلة مثل هل سعى التنظيم لتصفية هذه الأصقاع من من قد يتحولون لطابور خامس لخصومه وذلك لمصلحة من يراهم داعش رعية صالحة لتشكل الأمة السلفية الجديدة؟ وأنه خصوصاً بمصادرة أراضي وأملاك هذه الأقليات، يمكن تعويض وكسب على الأقل بعض فقراء من يعتبروهم رعية صالحة. كما أن هذه الاموال يمكن أن تستخدم لتمكين المهاجرين السلفيين الآتين من كل مكان وتوطينهم مكان من هجر. سنترك الإجابة على هذه الأسئلة لمقبل الأيام عسى أن تنضج رؤيتنا للظاهرة الجهادية السلفية عموماً في المستقبل.
وبما أن رجال الفكر السلفي الجهادي يستمدون كثيراً من جرائمهم من وحي الوصايا العنفية والإقصائية في التراث والأحداث التاريخية بكثير من الجهل وعدم الفهم. فحريّ بنا نحن كورثة لهذا التراث وتاريخه أن نفهم بدورنا وعبر تفسيرات بديلة لماذا كانت تحدث هذه المجازر.

السلطة الإسلامية
نظرت في مختلف مراحلها لأهل الذمة


تهجير شيعة لبنان في القرن 17

قد لا تختلف سياسة الاستيطان والاحتلال التي ينوي داعش إعتمادها اليوم كثيراً عن المشروع الصهيوني الذي اعتمد التطهير العرقي. وبما أننا لا نعرف بالضبط ما هي مشكلة داعش مع الأقليات الصغيرة في المناطق التي سيطرت عليها إلا أنه يبدو أنها حسمت أمرها بعدم قدرتها على تحمل وجود ملل مختلفة عنها. فإن الصهاينة لم يطبقوا بشكل كامل نصيحة منسوبة للرئيس اللبناني السابق كميل شمعون، حيث قيل أنه نصحهم بألا يضموا أراض فيها مسلمون فهم عنصر مشاغب متكاثر. ومع أن الصهاينة لم يقصروا بتهجيرهم لأهلنا في فلسطين من كل الملل عام 48 لكن ضمهم لأراض الـ67 خالف تلك النصيحة الاستراتيجية - والتي جاءت متأخرة بكل الأحوال - وها هم يدفعون ثمنه. فلا تستغربوا إن تشابهت حساسيات ساسة كشمعون مع البغدادي مع آباء المشروع الصهيوني، ولكن كل لأسبابه وطبيعة خصمه.
يرى ستيفان ونتر أن عنصر المشاغبة والتماسك العشائري أحد العناصر التي تسببت في النهاية في تهجير شيعة جبل لبنان وكسروان وجبيل والشمال من أراضيهم، لمصلحة الموارنة في أواخر القرن الـ 17. الذين اتفق كل من العثمانيين والفرنسيين على أنهم كأهل ذمة سيكونون أقل عصياناً وأكثر إنتاجاً ولن يتخلفوا عن دفع ضرائب لضعفهم، ولن يتدخلوا في السياسة ويتمردوا كما كانت تفعل الإمارات العشائرية. فلقد نظر للإمارات العشائرية الشيعية كإمارتي حمادة وحرفوش كعقبة «متخلفة» في وجه تقدم الاستثمار الرأسمالي وزيادة إنتاج الحرير - المطلوب بشدة في الأسواق الفرنسية - ومداخيل السلطنة من أراض غنية (Winter: 2012, p115-116).
وفعلاً يرى مسعود ضاهر أن المناطق التي انتشر فيها الموارنة انتعشت لاحقاً ولأسباب مختلفة، منها خلل نظام الضرائب العثماني والامتيازات التي منحت للأوروبيين ورعاياهم من ناحية، المساعدة الفرنسية الكبيرة التي جائت على شكل رؤوس أموال وتقنيات زراعية وصناعية حديثة من ناحية أخرى. وقد عوض الموارنة غياب القوة العشائرية لديهم بقوة الأخويات الرهبنية التي كانت شديدة التنظيم والإخلاص لقيم العمل والإنتاج والربح. كانت كفاءة الرهبان كيد عاملة زاهدة متبتلة ومتخصصة مكرسةً بتفان إلى زيادة أرباح وأملاك الكنيسة في لبنان ما ساهم بشكل غير مباشر في تقوية الزعامات المسيحية وبعض شرائح الطائفة. والجدير بالذكر أنه ظهر في القرن الـ19 مثل «هذا شغل رهبان» كدليل على الإتقان والجودة (ضاهر:1981، ص108-135).
ومن هنا نرى أن التهجير الذي حصل بحق الشيعة لم يكن له علاقة حقيقة بطائفية العثمانيين (من دون أن ننفيها) بل كان قراراً اقتصادياً عقلانياً دولتياً بجوهره اذا ما جاز لنا وصفه، خدمة لمصلحة الخزينة والاستثمارات الخارجية.

الأرمن والأمن القومي الفارسي في القرن 17

كان الأرمن من أهم منتجي الحرير في بلاد فارس، وهي السلعة الأثمن في تجارة البلاد الخارجية. وكان معظم هؤلاء الأرمن يقيمون في مدينة جلفا على الحدود العثمانية الصفوية. فما إن إندلعت الحرب بين الدولتين، حرص الشاه عباس عام 1604 على أن يمنع غريمه العثماني من الاستفادة من مواهب الأقلية الأرمنية المنتجة ومن أراضيهم الغنية.
فلجأ إلى تهجير الأرمن إلى عاصمته الجديدة أصفهان، جالباً 300 ألف منهم، بانياً لهم مدينة «جلفا الجديدة» بعد أن أحرق القديمة ضمن سياسة الأرض المحروقة التي اتبعها هناك. وقدم إليهم ما أمكن من تسهيلات وقروض ميسرة لينهضوا باقتصاد أصفهان وهذا ما تحقق (Matthee: 2006).
وبما أن الحرف والمهن كانت تنتقل أسرياً وقومياً أحياناً فإنك كنت لتجد نخبة قومية معينة مشهورة بتقديم كفاءات معينة للدولة لم يكن هناك مواطنون بل كانت هناك ملل ونحل كرعايا للشاه أو السلطان.
ولنفهم دور الأرمن ضمن الهرم الاجتماعي لفارس الصفوية، يمكن أن يعطينا التقسيم التالي نظرة سريعة. كان أهم وأثرى التجار هنا هم الأرمن وكانت بيدهم السلعة التصديرية الرئيسية في القرنين 16 و17 وهي الحرير. فيما كان العامليون العرب (من جبل عامل) يقدمون إلى جانب الفرس، الفقهاء والقضاة للمملكة وتمت على يدهم صياغة الخطاب الإيديولجي الجديد للبلاد. في حين أحتفظ «التاجيك» أي نخبة البيرقراطيين الفرس الذي كان أغلبهم من أصول سنية بشكل أساسي بإدراة الدولة ومؤسساتها. فيما كان الجيش يعتمد منذ تأسيسه على العشائر التركمانية العلوية، التي أخذت تتعرض لاحقاً للتهميش لمصلحة المماليك الجورجيين والشركس الذين تربعوا على قيادة الجيش.
ومن هنا لم تكن كل سياسات التهجير والقمع والمحاباة وغيرها تنطلق على خلفيات التعصب وحده بل هناك خلفيات اقتصادية وسياسية ليس للتعصب الديني والعقد النفسية دور كبير فيها كما يتصور الكثيرون. فالشاه عباس كان يعتبر أعرف شاهات إيران قاطبة بتواريخ وتفاصيل الديانة المسيحية لكثرة معاشرته للأرمن والأوروبيين في بلاطه.

التهجير لزيادة الإنتاج في العصر الكلاسيكي

من أشهر عمليات التهجير الاقتصادي هي تلك العملية الكبيرة التي قام به الملك الساساني سابور الأول حين غزا بلاد الشام في القرن الثالث وهجر الكثير من أهل أنطاكية (روم وسريان) التي كانت أحد أهم أربعة مراكز حضارية في العالم. وجاء سبب تهجير هذه النخب الإدارية والحرفية والدينية والاجتماعية الكفوءة لرفع مستوى الأقاليم الساسانية اقتصادياً. وتم له ذلك فصارت جنديسابور وميسان وسوسة وغيرها أحد أهم مراكز الطب والإنتاج الزراعي والحرفي.

تهجير الشعوب ما
كان دائماً ينجح لأسباب جغرافية أو ديموغرافية

ومما ساعد هؤلاء السريان والروم المسيحيين في البروز كقوة منظمة في القرون الأولى للميلاد هو نظام الصدقات التي مكنت آلاف المسيحيين الفقراء ليس فقط من المحافظة على دينهم بل ومن مواجهة مكاره الحياة. وهذا الجهاز المنظم لعب دوراً في التنظيم الاجتماعي والإنتاج الاقتصادي قبل أن يفسد فاستفادت منه الإمبراطوريات البيزنطية والساسانية (Brown:2002).
لكن تهجير الشعوب ما كان دائماً ينجح لأسباب جغرافية أو لوجستية أو ديمغرافية فهذا ما حصل مع المغول في الفترة 13-15. فمن ضمن أشهر هذه الحالات هي المذابح التي تعرض لها أهل المدن من كل الملل في خراسان وإيران والعراق والشام وأبناء الريف المنتج.
ففي أرياف شمال العراق مثلاً استهدفت حملات تيمورلنك ومذابحه المزارعين النساطرة السريان أكثر من العشائر الرعوية العربية والكردية. حتى يحرموا هذه البلاد من سكانها المستقرين المنتجين، كما استهدفوا الكثير من أهل المدن ونخبها الثقافية والادارية والعسكرية والحرفية. بينما لم يستهدف الريف العشائري الرعوي بشكل جدي واكتفى بنهب ما قدر عليه من مواشيهم.

نكبة الموريسكيين... نكبة لإسبانيا

كانت الزراعة والصناعة والحرف محتقرة عموماً في المجتمع القشتالي الحربي الذي كان في حالة توسع في وسط إسبانيا وجنوبها في القرن 13-15. فكانت الزراعة منبوذة بين أوساط القشتاليين لمصلحة الرعي الذي أعتبر مهنة شريفة، لمناسبتها ظروف التوسع والحرب.
أدرك الإقطاعيون الإسبان أهمية المجتمع الإسلامي المنتج في إسبانيا فحاولوا الاحتفاظ فيهم بأراضيهم في الأندلس وفالنسيا وقشتالة وكاتالونيا وغيرها. ولكن الهلع الأمني الذي انتاب المؤسسة الكنسية الكاثوليكية كما البلاط من خطورة بقاء المسلمين ديمغرافياً واقتصادياً وإمكانية تخابرهم مع السلطنة العثمانية التي كانت تهدد وسط أوروبا بقوة، هو ما شجعهم على تهجير وكثلكة هذه الأقلية إلى الأبد.
وهذا ما حصل إذ هجرت ونصرت الرعية المسلمة لملوك إسبانيا رغم معارضة الأمراء والإقطاعيين الإسبان لهذا القرار المدمر اقتصادياً في بداية القرن الـ17. وفعلاً تسببت هذه الهجرة (ضمن أسباب أخرى أهمها ديون الحروب) في انهيار الإنتاج الاقتصادي وإفلاس البلاد لاحقاً. ووقعت اسبانيا أكثر فأكثر بيد الممولين الطليان والبافاريين وغيرهم متحولة إلى سوق للمنتجات الأوروبية. ولضخامة الديون الاسبانية أخذت معظم الثروات المنهوبة من مستعمرات اسبانيا حول العالم تحول مباشرة لشمال إيطاليا والنمسا وبافاريا وغيرها من الممولين لسداد الديون ولشراء المنتجات الصناعية المفقودة محلياً.
وظل هذا الوضع البائس حتى القرن الـ18، حيث ظل المجتمع الاسباني غير المنتج عموماً يحتفظ بنظرة دونية للمهن، فاعتبرت الزراعة مثلاً، مهنة الموريسكيين الأذلاء (أي العرب الخاضعين لحكم الإسبان) ولا تليق برجل اسباني شريف. ما اضطر الملك المصلح كارلوس الثالث لأن يسن قانوناً يؤكد فيه أن العمل في الزراعة والحرف ليس مهيناً ولا يهين المرء أن يزوج ابنته لنجار أو حداد أو خياط. وهذه النظرة القشتالية تشبه كثيراً نظرة مجتمعات العشائر المقاتلة في العراق في العصر العثماني.
واتخذ قراراً آخر أكثر أهمية تمثل بتشجيع هجرة آلاف الألمان (كما سيفعل الروس) لاستيطان في الأراضي الاسبانية لتشجيع الإنتاج المحلي. وتوزع هؤلاء الألمان المنتجين على أكثر من مستوطنة في أرجاء إسبانيا لتغطية هذا النقص.

النموذج المللي الإسلامي

لكن العلاقات بين الإسلام والمسيحية وبقية غير المسلمين لم تكن دائماً محكومة بالضرورات الوجودية القصوى كما كان يراها ولاة الأمور. فلقد ورث المسلمون نظام الملل والخراج والجزية من الدولة الساسانية الفارسية قبلهم. ونجح تطبيقه في بعض الجوانب محققاً نتائج إيجابية لبعض الشرائح الاجتماعية، مع تأكيد أننا لا نستطيع أن نصفه بالعادل ولكنه كان بمقاييس وظروف نهاية العصر الكلاسيكي المتأخر (تقريباً 250-800 م) نظاماً مرناً نسبياً.
فلقد سمح هذا النظام لليهود بالعيش أينما أرادوا تقريباً، بعد أن كانت إيلياء المقدسة لديهم محرمة عليهم. كما تعامل الإسلام مع كل الطوائف المسيحية على حد سواء ما سمح للطوائف المهرطقة بالنمو.
فأول مئة عام مرت تحت حكم الإسلام أي في القرن السابع الميلادي، شهد المشرق عصراً ذهبياً سريانياً لن يتكرر. ويعتقد أن ما ألف من كتب ورسائل وترجمات سريانية في هذا العصر لم يسبقه ويلحقه عصر آخر بحسب رأي جاك تانيوس Tannous:2010) ).
ويعتقد أن أحد أسباب الرخاء الاقتصادي الذي عم الحضارة العربية الإسلامية في قرونها الثلاثة أو الأربعة الأولى، كانت جزئياً لكون المسلمين في حينها أقلية صغيرة (عرب وفرس ومولدين) تحترف القتال وتتكفل بالدفاع وسن القوانين وإدارة أرض الخلافة (دار الإسلام) مقابل أكثرية معاهدة منحت صفة قانونية هي «أهل الذمة»، احترفت الإنتاج وأبدعت فيه، وتعتقد الدراسات الحديثة أن الكثير من «الذميين» تأقلموا وأفاد بعضهم من الوضع الجديد الذي لم يكن جحيماً للنخب.
وكانت هذه السياسة فرصة لنشوء فكرة «الذمي المنتج الذي لا يخسر ذكوره بأعمال غير منتجة ومهلكة للزيادة الديمغرافية كالجندية والتطوع العسكري والتي كانت تقع على الشرائح المسلمة. ما سمح بنمو القرى والبلدات «الذمية» (المسيحية في الأغلب) في العراق والجزيرة والأناضول وأرمينيا وتراكم الثروات فيها في عصور الاستقرار ما سمح بالتالي بملء خزائن الخلفاء بأموال الخراج والجزية (فارج وكرباج: 1994).
وهو الوضع الذي ناسب الكثير من السلاطين والولاة التي كانت جبهتها الخارجية مؤمنة مثل حالة الحجاج بن يوسف الثقفي والي العراق الأموي (694-714م). فاعتمد على المسلمين وجلهم من عرب الكوفة وعموم العراق لفتح خراسان وفضل بقاء العملية الإنتاجية بيد أهل الذمة. لذا رفض الحجاج إسلام وهجرة النبط (فلاحي السواد الأراميين) للحواضر وتركهم الأرض، وختم أسماء قراهم على أجسادهم وأعادهم إليها. واعتبر الكثير من معاصري الحجاج بما فيهم الأمير الأموي (خليفة لاحقاً) عمر بن عبدالعزيز هذا قراراً اقتصادياً سلطوياً ظالماً فأسقطه حين استلم.
ولكن وجهة نظر الحجاج هي ما كان الكثير من الحكام المسلمين (على الأقل في بعض الأقاليم) يفضلونها، أي أن تدافع الأقلية المسلمة المحاربة وتعمل الأكثرية الذمية. وهذا ما ولد لاحقاً نقاشاً فقهياً لا مجال للخوض فيه حول جواز بقاء الخراج على أرض من أسلم من الناس أم ترفع كالجزية. وهو الأمر الذي اختلف عليه الفقهاء بين من أقلقه تراجع موارد بيت المال وبين من كان همه زيادة المسلمين.
وأشهر وأدق وصف وصلنا لهذه لتجربة ما يمكن تسميته هنا «الاقتصاد الذمي أو المللي» هي تجربة سلاجقة الروم (القرون 11-15م) في الأناضول والتي طبقها العثمانيون لاحقاً بنجاح في ممتلاكتهم الأوروبية. حيث حكموا غالبية مسيحية كبيرة من روم وأرمن.
حيث ينقل لنا الرحالة الإيطالي ماركو بولو أن مجتمع الأناضول كان مكوناً من ثلاث طبقات، التركمان وهم على حد وصفه «برابرة» يحيون حياة «البهائم» (لعله قصد رعويتهم)، ومن ثم الأرمن وهؤلاء مسيحيون غير كاملين، مدمنو سكر ويفرطون في الأكل والشرب ولهم وفرة من إنتاج النبيذ، وأخيراً أهل المدن والقرى وأغلب هؤلاء كانوا روماً وهم أغنى القوم وبيدهم الحرف والتجارة والممتلكات العظيمة. وبعد بضع سنوات يكمل ابن بطوطة وصف مجتمع الأناضول بأن الصناعة والحرف فيه للروم ويسود فيه المنكر على وصف الرحالة المغربي «ففساد» الجواري الروميات يملأ الإقليم كله (فارج وكرباج: 1994 ص183).
ما نود الوصول إليه هنا أن الكثير من الدراسات والكتابات العربية لا تتعب نفسها كثيراً لشرح وتقصي الأسباب الحقيقية للمذابح وعمليات التهجير. وغالباً ما يعيد هؤلاء مثل هذه الممارسات والجرائم للنصوص الدينية التي يفترض أن تكون هي المؤسسة لهذا الظلم. لكن مثل هذا التفسير للأحداث اليوم والبارحة سيدخلنا في دوامة لا تنتهي من المقولات الثقافوية العنصرية التي عززتها معادلة صراع الحضارات الأميركية.
* كاتب وباحث عراقي

المراجع

The Shiites of Lebanon under Ottoman Rule٬ - 1516-1788 (Cambridge Studies in Islamic Civilization) by Stefan Winter


فيليب فارج ويوسف كرباج ( المسيحيون واليهود في التاريخ الإسلامي العربي والتركي ) 1994

- Syria between Byzantium and Islam: making incommensurables speak by Jack Tannous 2010 Vol 1 (PhD dissertation at Princeton University)
Poverty and Leadership in the Later Roman Empire (2002) by Peter Brown

مسعود ضاهر، الجذور التاريخية للمسألة الطائفية اللبنانية 1697-1861» (1981)