وقفة مع الذات هو ما تحتاج إليه هيئة التنسيق النقابية هذه الأيام. ثمة ضرورة، يقول الناشطون في الهيئة، «لتقويم التحرك بشفافية وصدق ومعرفة أين أخطأنا وأين أصبنا وما هي الإمكانات الحقيقية لمكوناتنا وهل هي قادرة فعلاً على تغليب العمل النقابي على الحزبي، ومن ثم ما هي أسلحتنا الفعلية التي تلملم صفوفنا وتمكننا من البحث عن أدوات مختلفة في مواجهة السلطة السياسية؟».
لم يمر على الموظفين، لا سيما من عايش منهم أكثر من محطة نضالية، مسؤولون على هذه الشاكلة، أي بارعين في «الطمطمة» والكذب، بحسب تعبيرهم. هي سياسة «الصمت» لكسر الحركة العمالية وقمع التحركات، وهذا بحد ذاته كافٍ لأن يتسلل التململ إلى نفوس الكثيرين ويؤثر في عزيمتهم، كما يؤكد الناشطون.
«الإحباط طبيعي» بعد ثلاث سنوات، تقول الأستاذة في التعليم الخاص يانا السمراني؛ فالمعلمون والموظفون بشر، وملف سلسلة الرواتب تحوّل من قضية حقوق إلى مسألة أخلاق، «ففي تاريخهم النضالي، لم يشعر المعلمون بالإذلال كما يشعرون اليوم. لم يكذب عليهم المسؤولون إلى هذه الدرجة، بل كانوا في كل مرة يتحركون فيها يصلون إلى حلول مقبولة. وهنا لم يكن بالإمكان العودة إلى التصحيح، فقرار الإفادات غير القانونية كان متخذاً سلفاً، لذا يجب أن يصبح وراءنا، ويجب أن نتواصل في ما بيننا لنقوّم ما حصل ولنعيد بجدية إطلاق التحرك، فالنضال لم ينته بعد».
ستكون المرحلة المقبلة صعبة، تقول مسؤولة الشؤون التربوية في رابطة أساتذة التعليم الثانوي الرسمي بهية بعلبكي، «إذ بتنا نتوقع أي شيء من هذه السلطة السياسية، فقد تؤجل إقرار السلسلة إلى الأبد، وقد تقرّ سلسلة مشوّهة تضرب الحقوق المكتسبة للقطاعات الوظيفية وتقسّم هيئة التنسيق». برأيها، الحاجة ضرورية إلى أن يجري كل مكوّن من مكونات هيئة التنسيق نقداً ذاتياً للمرحلة السابقة، ويجب أن تكون إعادة الاعتبار للشهادة الرسمية في رأس أولويات التحرك في المرحلة المقبلة. فالشهادة هي الورقة التي توحّد ملامح التلميذ اللبناني في مواجهة «البكالوريات» الآتية من كل حدب وصوب.
كانت المرة الأولى التي يتم فيها تغليب المصلحة النقابية على التبعية الحزبية


وفي تقويم للتجربة الماضية، تشير بعلبكي إلى أن هيئة التنسيق وجدت كشكل من أشكال الضرورة الشعبية في ضوء عجز الاتحاد العمالي العام عن محاكاة مصالح الناس، لارتباطه الوثيق بالمحاصصات السياسية. الهيئة، بحسب بعلبكي، بدأت بالدفاع عن مطالب فئة معينة لتتحول إلى حالة جماهيرية تمثل تطلعات المواطنين، وقد كبرت رغم محاصرتها من الخارج بالهجمة على الحقوق، ومن الداخل بالضغط على النقابيين في هيئة التنسيق. إلا أن بعلبكي تبدو مقتنعة بأن الضغوط جوبهت بوقوف معظم النقابيين ضد أحزابهم، وحدث فصام بينهم وبينها، وكانت المرة الأولى التي يغلّب فيها هؤلاء مصلحتهم النقابية على تبعيتهم الحزبية. برأيها، لو خضعت هيئة التنسيق للتجاذبات التي مارستها الأحزاب والقوى السياسية، ولو لم تدرك القاعدة خطورة الأمر، لما كان هناك وجود لهيئة التنسيق اليوم. تستدرك: «التمسك بالآليات الديموقراطية والاهتداء برأي القواعد لا يضيّع البوصلة في معظم الأحيان، فكل شخص من هذه القواعد قادر على أن يوصل صوته إلى أصحاب القرار وأن يحدث فرقاً».
الموظف في وزارة الزراعة علي برو يصرّ على مراجعة التجربة بموضوعية وبلا مكابرة، مع «أهمية أن نعرف ما إذا كانت تركيبتنا قادرة على الفصل بين العمل السياسي والنقابي وضرورة تحديد الفريق الثاني الذي سنواجهه، والابتعاد عن الخطابية الفارغة والبحث عن أشكال للتحرك لا تشل مصالح المواطنين مثل تنظيم نشاطات خارج الدوام». يتحدث برو عن «أخطاء حصلت في المرحلة السابقة، إذ لم تكن الوجهة واضحة أمامنا منذ البداية، فاستهدفنا الهيئات الاقتصادية وحدها (وإن كنا نقرّ بأنها شريكة في هذا النظام) ورحنا نطلق عليها تسمياتنا من حيتان المال وغيرها، وحيّدنا السياسيين وأرحناهم، بل كنا نمدحهم في بعض الخطابات».
الخطأ الثاني كان، بحسب برو، تزحلقنا على قشرة الموز التي وضعوها أمامنا، وهي المرسوم 10415 الخاص بالمواد الضريبية، فغرقنا في الحديث عن الإيرادات والتمويل، فيما كان يجب أن نطرح مشروعاً لإصلاح النظام الضرائبي المختل. وبالنسبة إلى الهدر، فقد تحدثنا عن وجهة واحدة منه، وهي سوء جباية المال العام، سواء من المرفأ أو المطار أو الأملاك البحرية، فيما لم نتطرق إلى سوء الإنفاق ولدينا سلاح المادة 13 من قانون المحاسبة العمومية التي تشترط إجراء دراسات تبرر الإنفاق. أما الضربة القاسية، بحسب برو، فكانت عدم استدراك تهويل السلطة السياسية بالإفادات، فخسرنا ورقة مقاطعة التصحيح.
برأي الموظفة في الوزارة نفسها مي مزهر، يحتاج العمل النقابي إلى نفس طويل و«نحن في الإدارة العامة ما زلنا في أول الطريق، وأكبر انتصار حققناه أننا أحبطنا محاولاتهم لكسر رأسنا، وقد فشلوا في وضعنا تحت سيطرتهم».
كان يجب عدم تصديق السلطة السياسية والتراجع عن مقاطعة التصحيح في السنوات الماضية. هذا ما يظنه الأستاذ في التعليم المهني الرسمي سلام حرب، «فاليوم عدنا إلى النقطة الصفر، وبات علينا أن نعدّ رديّات جديدة مع عامل قوة وحيد هو تمرد النقابيين الحزبيين على قياداتهم الحزبية، وهذا تجلى بوضوح في المحطة الأخيرة، ويمكن الاستفادة منه للبحث عن أدوات نضال تصعيدية مختلفة، منها الاعتصام لأيام أمام الوزارات وتنظيم تحركات أمام منازل رؤساء الكتل السياسية».
لقد تجاوزت السلطة في المواجهة الحدود التي تحترمها الدولة الحديثة عادة في صراعها مع النقابات، هذا ما يؤكده الأستاذ في التعليم الثانوي الرسمي يوسف كلوت، فقد كسرت مبدأ التفاوض بضرب سيادة الدولة بشأن الشهادة الرسمية، ما أدى إلى النيل من التعليم الرسمي عموماً وشل هذه التجربة النقابية الوليدة. بمعنى آخر، وجهت السلطة، بحسب كلوت، ضربة «غير مسبوقة» للدولة ومبدأ العمل النقابي في آن واحد! وقد أدى ما جرى (في وجه من أهم وجوهه) إلى تقوية الوجهة التصفوية التي تستهدف تقليص دور الجامعة اللبنانية وحجمها لمصلحة الجامعات الخاصة. هذه الوجهة سمحت بالمزيد من التلاعب المزاجي بنظام التقويم والترفيع لطرد الطلاب الناجحين على إيقاع معزوفة رفع المستوى التي ما فتئت تتردد منذ سنوات، ولم تواجه حتى الآن إلا ببعض الانتفاضات الطالبية المحدودة. ويرى كلوت أن ما حصل كشف أنّ الصيغة النقابية الراهنة، رغم ما أدت إليه من فاعلية في مراحلها الأولى، لم تعد كافية لمواجهة الوضع المستجد، وأن تطويرها لمواجهته لا يمكن أن يتم حصراً بإعطاء الصيغة القائمة شكلاً قانونياً جديداً، أي تحويل الروابط إلى نقابات.