رحل سميح القاسم (1939 ـــ 2014). رحل صاحب «لا أستأذن أحداً» من دون أن يستأذن فعلاً. كنا نعرف منذ سنوات أنه يُعالج من السرطان، وعرفنا أخيراً أنّ صحته تدهورت، وأنه يحتضر في أحد مستشفيات مدينة صفد شمال فلسطين المحتلة. الخبر الذي كان شبه مؤكد صار مؤكداً ليلة أمس، ورحل الشاعر الذي شكل ذلك الثالوث الشهير في شعر المقاومة الفلسطينية مع توفيق زيّاد ومحمود درويش. هو الذي كوّن ثنائياً تجاوز فكرة المقاومة والهوية الفلسطينية، إلى صداقة شخصية وشعرية مع درويش.
ولعل علاقته الثنائية هذه جعلته بطريقة ما الطرف الأقل شهرةً ونجومية، وقد يرى بعضهم أنه كان الطرف الأقل شعرية أيضاً، وإن كان شاعراً بارزاً ومتمكناً بالطبع. كان القاسم «ضحية» هذه الثنائية، و«ضحية» هويته الفلسطينية، وانتمائه إلى شعر المقاومة الذي – رغم أهميته وجماهيريته – لا يتذكره النقاد العرب إلا في نطاق محصور بالنضال والمقاومة. لا نقصد بالضحية هنا معناها الحَرْفي طبعاً، بل نشير في لحظة غيابه إلى أن هذا النوع من التجاهل النقدي أكسبه حضوراً أقل مما يستحقه، أو أنه غيّب التقدير الحقيقي لهذا الحضور. هكذا، تحول سميح القاسم إلى اسم ورمز، وحُجب جزء من شعره ونثره وراء هذا الاسم الأيقوني المستند بدوره إلى الأيقونة الكبرى فلسطين.

شكّل مع محمود درويش ثنائياً يتجاوز فكرة المقاومة والهوية الفلسطينية إلى الصداقة الشخصية والشعرية

الشاعر الذي ولد في قرية «الرامة» عام 1939، وانتسب إلى الحزب الشيوعي في شبابه، واعتقل وفرضت عليه سلطات الاحتلال الإسرائيلي الإقامة الجبرية أكثر من مرة، وترأس عدداً من صحف الداخل الفلسطيني، حظي مبكراً بمكانته الأدبية واسمه الشعري لدى الجمهور الفلسطيني والعربي. ولا يزال من عاصروا تلك الفترة التي امتزج فيها الشعر بالمقاومة الفلسطينية، يتذكرون كيف شاعت قصائد درويش والقاسم وزيّاد، وسكنت وجدان الجماهير العربية، وتحولت إلى أناشيد على ألسنتهم. نتذكر حضورهم في قصيدة نزار قباني الشهيرة «شعراء الأرض المحتلة» التي كتبها عام 1968، ونتذكرهم في كتاب غسان كنفاني «أدب المقاومة في فلسطين المحتلة» الذي صدر عام 1967، ونتذكر الحفاوة التي استُقبل بها درويش بعد خروجه من فلسطين عام 1971، ونتذكر قصائد توفيق زياد ومرافعاته الأخلاقية ضد سياسات إسرائيل داخل الكنيست، وقصائد سميح القاسم وارتباطه بالأرض. نتذكر للثالوث الشعري نفسه ثلاث قصائد شكلت جوهر شعر المقاومة في تلك الحقبة التي أعقبت هزيمة حزيران، وصعود الكفاح الفلسطيني بعد تأسيس «منظمة التحرير الفلسطينية». ثلاث قصائد لا تزال كلماتها تتردد في الوجدان الفلسطيني والعربي، وهي: «سجل أنا عربي» لدرويش، و«هنا باقون» لزيّاد، بينما كان نصيب القاسم قصيدته «خطاب في سوق البطالة» التي اشتهرت أكثر باسم «يا عدوّ الشمس»، وفيها كتب: «ربما تسلبني آخر شبر من ترابي/ ربما تطعم للسجن شبابي/ ربما تسطو على ميراث جدي/ من أثاثٍ وأوانٍ وخوابِ/ ربما تحرق أشعاري وكتبي/ ربما تطعم لحمي للكلابِ/ ربما تبقى على قريتنا كابوس رعبٍ/ يا عدوّ الشمس لكن لن أساوم/ وإلى آخر نبض في عروقي سأقاوم».
سميح القاسم هو ابن هذا المعجم الفلسطيني، وابن تلك العجينة الخصبة التي اتحد فيها العرب في قضية واحدة. فلسطين أعطت القاسم (كما أعطت أقرانه الآخرين) بطاقة عبور إلى ذاكرة الناس، وتحولت قصيدته «منتصب القامة أمشي» بصوت مرسيل خليفة إلى نشيد ثوري. قليلون من ميزوا داخل هذه الصورة النضالية المباشرة للشاعر، أنه شاعر حب وشاعر تفاصيل وشاعر ألم، والأهم أنه شاعر حقيقي بصرف النظر عن ذلك الاقتران الأبدي بين شعريته وبين «شعرية» فلسطين.
اشتُهر سميح القاسم في صورة الشاعر والمناضل، ولكنه كتب نثراً مرموقاً في مقالاته وسردياته. وكما كان شاعر ديوان حماسيٍّ مثل «دمي على كفي»، كان صاحب رواية مدهشة ومؤثرة مثل «الصورة الأخيرة في الألبوم». وإلى جانب سيرته الإبداعية، ترأس «الاتحاد العام للكتاب العرب» في فلسطين منذ تأسيسه، وكان في السنوات الأخيرة رئيس تحرير فصلية «إضاءات»، ورئيس التحرير الفخري لصحيفة «كل العرب» التي تصدر في مدينة الناصرة.
غاب سميح القاسم في اللحظة التي لا تزال فيها غزة تُقصف والفلسطينيون يقاومون ويستشهدون. كأن الزمن «تواطأ» مع الشاعر لكي يعود اسمه إلى قلب المشهد اليومي، ويكون آخر الراحلين من ثالوث شعراء المقاومة.