نعم، بالتأكيد، أخي جان عزيز؛ القصة هي هكذا: ليست مؤامرة بالضبط، وليست سياقاً بالتحديد، بل شيء بينهما يسمح بهذه الآلية المنظّمة لتهجير المسيحيين من المشرق. لكنه يتجاوز الصيغة التي تؤمّن رضا الإسلام السياسي والصهيونية واحتياج الغرب إلى ديموغرافيا قابلة للاندماج. هناك ما هو أعمق وأبعد، دعنا نحاول الغوص أكثر.
1ــــ فنقاء المشرق من المسيحيين، يلغي، في الواقع، المشروع القومي من جذوره الفكرية والثقافية وحتى السياسية. القومية العربية، بالأساس، قبل البعث والقوميين العرب، كانت تعني الوحدة المشرقية تحديداً، الفكرة التي تابعها الزعيم أنطون سعادة، في منهج علمي وعلني، القومية السورية (ومن ضمنها العراق). القومية منتج مسيحي مشرقي، وحاجة مسيحية مشرقية؛ على وجه الدقة، لأتباع الكنائس الشرقية، ممن وجدوا أنفسهم، بعد سايكس ــــ بيكو، وقد تحولوا من كتلة اجتماعية سياسية وازنة تمتد على أنحاء المشرق، وتشكّل قوة رئيسية في كيانه، إلى «أقليات» في كيانات التقسيم؛ الضربة الأولى للمسيحية المشرقية جاءت من سايكس ــــ بيكو، أي تلبية لمصالح الاستعمارين الفرنسي والبريطاني.
2ــــ الضربة الثانية جاءت من المشروع الطائفي الماروني اللبناني؛ فهوس القيادات المارونية بإنشاء دولة منفصلة عن سوريا، والدمج بين المارونية والقومية اللبنانية في كيان أقصى، عن عمد، مناطق مسيحية أرثوذكسية سورية للحفاظ على أكثرية مارونية في دولة طائفية ضيقة الأرض وضعيفة الموارد، ومحكومة بالعلاقات الكمبرادورية، ما أدى إلى استنزاف الجبل ديموغرافياً، وبعدما كان خسر جزءاً من كثافته في الحرب العالمية الأولى، بالمجاعات، أضحى تدمير الاقتصاد الريفي والحرفي ــــ والخضوع للأيديولوجية والسوق الكمبرادورية العاجزة عن استيعاب فائض العمالة ــــ أساساً لدينامية الهجرة المارونية. وذلك حتى قبل أن تأتي الحرب الأهلية.
3ــــ وفي الحرب الأهلية في لبنان، لم تكن هناك أطراف إسلامية، بل قوى مقاومة فلسطينية علمانية وقوى يسارية وقومية، ولكن أطرافاً منها ومن جماهيرها، كانت، في الواقع، معادية للمسيحيين ــــ بمن فيهم القوميون واليساريون والليبراليون ــــ وليس فقط للكتائب والقوات وبقية الميليشيات المارونية التي قاتلت لاستعادة ميشال شيحا في زمن تغيّر، وتحولت إلى سلطة استبدادية عنفية لصوصية في مناطق«ها»؛ بين طرفيّ الكماشة هذين، «القوات المشتركة» والميليشيات المارونية، بدأ سيل الهجرة المسيحية؛ تزايد بعد انتصار المشروع السني الكمبرادوري المعروف بالحريرية ــــ والذي انتهى إلى الداعشية ــــ لولا الجيش السوري، لكان شهد مسيحيو لبنان، مذابح جماعية باسم فلسطين والناصرية والتقدمية الاشتراكية الخ.
4ــــ ومع أن سوريا العلمانية، كما يرى حتى الأعمى، ظلت عاصمة المسيحية المشرقية، وعاش المسيحيون فيها في أفضل وضع مشرقي؛ فقد ناصبتها المارونية القومية اللبنانية، العداء الثابت العميق، حتى أن رئيس القوات، سمير جعجع، اصطف ويصطف مع «الإخوان المسلمين» و«جبهة النصرة» و«داعش»، ضد سوريا العلمانية.
5 ــــ حتى أن الأمر يتعدى جعجع؛ فالحقيقة الموجعة أن الاتجاه العام بين الجمهور الماروني اللبناني، يشير إلى ضعف التعاطف مع مسيحيي سوريا الذين يعانون، منذ 2011، من المجازر والتهجير والإذلال على أيدي العصابات التكفيرية الإرهابية. لا يزال الماروني اللبناني ينظر إلى نفسه من وجهة نظر ميشال شيحا اللبنانوية، ولا يرى نفسه كمسيحي مشرقي؛ بالعكس، ما يزال يختزن قدراً من العنصرية ضد مسيحيي سوريا والعراق والأردن وفلسطين. بالمقابل، شعر المسيحيون السوريون والمشارقة بتعاطف الشيعة الذين قدموا الشهداء دفاعاً لبنان وسوريا، وفي قلب هذه المعركة بالذات، دفاعاً عن المسيحيين ومناطقهم وتراثهم وكنائسهم الخ
6ــــ من وجهة نظر مسيحية، بل من وجهة نظر مارونية تحديداً، هل هناك أي مستقبل للمسيحية اللبنانية خارج اتحاد لبناني ـــ سوري؟ ينطبق ذلك بالطبع على المسيحيين في العراق والأردن وفلسطين؛ لا أمل لمسيحيي المشرق خارج الاتحاد المشرقي.
7ــــ تهجير المسيحيين العراقيين عملية مستمرة منذ العهد الملكي، تصاعدت في العهد البعثي، ثم بلغت أوجها بعد سيطرة المقاومة السلفية والتكفيرية على السياسة الشعبية في عهد الاحتلال، وانتهت، أخيراً، إلى كارثة التطهير الكامل على أيدي «داعش». هذه العملية، في تاريخها المتصاعد، لها سبب داخلي رئيسي يتعلّق بنهج طائفي تحكّم في السياسة العراقية دائماً، واستهدف اقصاء الشيعة (رغم أنهم الأكثرية) عن الدولة والسلطة؛ يستلزم ذلك، تلقائياً، تهميش «الأقليات» واستبعادها ودفعها نحو الكمون أو الهجرة.
8ــــ وفي فلسطين، حيث كانت نسبة المناضلين في صفوف المسيحيين أعلى من نسبتهم بين أخوتهم المسلمين، جاء تأسيس «حماس» وأسلمة الكفاح الفلسطيني، ليهمّش المسيحيين الفلسطينيين سياسياً، ويدفعهم للهجرة نحو الكمون أو نحو الخارج. ترافق ذلك مع سياسات إسرائيلية تقليدية تبحث عن صورة للصراع يكون فيها لونان، يهودي ومسلم، ينسف الشرعية الوطنية عن الصراع التحرري، ويحوّله صراعاً يهودياً ــــ اسلامياً، يسوّغ الدولة اليهودية.
9ــــ تشكل الكتلة المسيحية الأردنية عماد الوطنية الأردنية؛ الكتلة الأكثر دينامية في جميع المجالات الاقتصادية والسياسية والثقافية الخ؛ النظام الملكي نصف العلماني يسمح لمسيحيي الأردن بقدر من الاستقرار، كما أن وجودهم على شكل عشائر مترابطة يمنحهم الحس بالحماية الذاتية. لكن تورّط النظام في العلاقات مع التكفيريين الإرهابيين في سياق التدخل في سوريا والعراق، أنعش الظواهر الطائفية والتكفيرية والمعادية للآخر، إلى حد غير مسبوق. للولايات المتحدة وإسرائيل والقوى المرتبطة بها في مشروع الوطن البديل، مصلحة أساسية في تهجير مسيحيي الأردن، ذلك أنهم رأس الحربة في الحفاظ على الهوية الوطنية والنضال ضد وطن بديل سيحوّلهم من مكوّن رئيسي إلى أقلية هامشية.
10ــــ خارج المشرقية، لا يوجد أمل للمسيحيين.