القاهرة | «سوف أترك قلبي هنا وأمضي. وداعاً «٦ب شارع قصر النيل». خلال الأسابيع المقبلة، سأغادر مضطراً المكان الذي أحبه أكثر من مكان ولادتي الذي لا أعرفه». هكذا كتب الكاتب والناشر المصري محمد هاشم (1958 ـــ الصورة) أخيراً على صفحته على الفايسبوك. رسالة رغِب صاحب «دار ميريت» عبرها إبلاغ الجميع بوصول محاولاته مع مالك البناية التي تقع فيها الدار إلى نقطة النهاية بعدما عُرض عليه دفع مبلغ مليون ونصف مليون جنيه (حوالى 200 ألف دولار) كي يمتلكها. رقم ضخم لا يقدر عليه، لذا صار ضرورياً البحث عن مكان بديل لم يجده حتى الآن. لكنّه كتب هذه الرسالة والتزم الصمت ولم يترك لأحد مسافة للحديث فيه، هو لا يحبّ الحديث في أيّ مسالة تخصه.مع ذلك، يبدو هاشم مبتسماً كعادته وهو يستقبلك على بوابة «ميريت». ابتسامة تظهر كحالة إدمان لا يريد التخلص منها بغية تطويعها لمواجهة الأحداث القاسية التي تحيط به.

ابتسامة تبدو كأنها تجسيد لفكرة «المقاومة بالحيلة» ويسير عليها حتّى يتمكن من مواصلة خطواته في الحياة فاعلاً ومشاركاً ومؤثراً. لهذا، يبدو صاحب «ملاعب مفتوحة»، ملتصقاً بالشأن اليومي والعام، منغمساً بداخله ومنطلقاً من مقر «ميريت» الذي دخلناه لنجد جلسة نقاشية حول رواية جديدة لكاتبة شابة من فلسطين أتت للتوقيع على إصدارها الخارج من مطابع الدار. مناسبة ستفرض في جلسات لاحقة نقاشات حول الجرائم التي يرتكبها جيش الاحتلال الاسرائيلي في غزّة. هاشم الذي نال «جائزة جيري لابير الدولية لحرية النشر» التي يمنحها «اتحاد الناشرين الاميركيين» (1996) لا يتردد في إعلان غضبه بخصوص الـ «تواطؤ الحاصل بحق أهلنا في غزّة وتركهم وحيدين في مواجهة جيش من القتلة».

غاضب من التواطؤ على غزة
ومن النخبة التي تؤلّه السيسي

رؤية لا تبعد من موقفه من العسكر بصورة عامة، وهو يعلنها باستمرار وتعرض بسببها لأشكال من التضييق والملاحقة الأمنية ومراقبة «ميريت»، وتسجيل أسماء زوّارها واتهامه بمساعدة الناشطين. لم يمنعه هذا من الاستمرار في رفضه لما كان يجري من ترحيب بالعسكر وعملية إعادة انتاجهم في الحياة المصرية «كأن ثورة لم تقم ضد العسكر». في نهاية 2011، أعلن إضراباً عن الطعام احتجاجاً على محاكمة المدنيين عسكرياً من أيّام المجلس العسكري الذي تولى الحكم بعد تنحي حسني مبارك وصولاً إلى عصر المشير عبد الفتاح السيسي الذي «يلاقي للأسف حفلة تأليه من قبل عدد من المثقفين والنخبة» كما يقول. حالة دفعته في تشرين الأول (أكتوبر) الماضي إلى إعلان قرار الهجرة «بعدما فقدت الثورة روحها العظيمة»، لكنّه تراجع عن قراره لاحقاً.
هكذا يبدو «العمّ هاشم» كما يُناديه محبّوه متوزعاً بين هذه المشاغل وتلك من دون أن يسمح لمحدثه بالانتقال إلى إقفال «بيت الثورة» بحسب الصفة التي نالتها «ميريت» أثناء «ثورة 25 يناير». يحاول تشتيت زوّاره والذهاب بهم إلى نقاط نقاشية أخرى. لكن مع تكرار طلبنا، رضخ أخيراً قائلاً «خلاص ما فيش أمل، لازم نسيب الشقّة». ويضيف «المبلغ الذي طلبه صاحب العقار كبير لا تقدر عليه «ميريت» التي لم يتشكل لها رأس مال خلال سنوات شغلها في إصدار الكتب». يفسر لنا آلية الشغل التي كانت الدار تسير عليها حريصة على دعم الأسماء الإبداعية الشابة «لكنها أسماء لا تكسب في السوق لأنها جديدة وغير معروفة، فنعمل على دعم طباعتها من مردود الإصدارت الأخرى التي كانت تأتي بمردود جيّد وعلى هذا سرنا».
لكنّ هذه الطريقة لم تكن تثمر بشكل دائم. واجهت «ميريت» عثرات ماليّة كثيرة يتذكر هاشم أقساها عام 2008 حين تكاثرت ديون الإيجارات ولم تكن هناك ثغرة أمل لولا تدّخل «الفاجومي» (أحمد فؤاد نجم) الذي قدّم مبلغ 40 ألف جنيه لتنجو الدار من الإغلاق. يضحك هاشم وهو يقول لنا: «بس والله أنا ردّيتهم لاحقاً لعمنّا الكبير نجم قبل قيام الثورة بسنتين».
هل يعتقد أنّ هناك ممارسات من تحت الطاولة ترمي إلى إغلاق الدار؟ يجيب بأنّ العقد انتهى بشكل فعلي وللمالك كل الحق، لكنّه يضيف: «لكن بصراحة إحنا بنتعاقب على كل ما فعلته الدار من رفع لسقف الكلمة الحرّة، ما تركنا محشورين بين ثقلين: ضغط السلطة وتكفير الإخوان لنا». يكشف هاشم أنّ مالك العقار أبلغه بأنّ ضابطاً في أمن الدولة بعث له رسالة بضرورة إغلاق الدار وعدم تجديد عقد الإيجار وأنّ هناك من تقدّم بمبلغ مليون ونصف مليون جنيه لشراء الشقة «بالطبع لم يخبرني باسم ذلك الذي يريد دفع هذا المبلغ لطردنا فقط».
وعليه يبدو أن حكاية المقرّ الأول لـ «دار ميريت» انتهت وصار لها أن تبحث عن مساحة جديدة تبدأ منها مرة أخرى. لكنّ العمّ هاشم يؤكد حرصه أن يكون ميلادها الثاني قريباً من منطقة وسط البلد «مجالنا الحيوي»، مؤكداً أنّ لا شيء سيتغير سوى المكان «سنغادر بالروح نفسها التي كانت في «ميريت» بمحرريها وإدارتها، وبشروط الطبع نفسها: إبداع وحريّة. المكان سيتغيّر فقط»، يقول هذا مضيفاً: «أنا حزين بصراحة لكل هذا، بس باحاول ما أكونش حزين».