لم يتغيّر شيء منذ ما قبل الاستقلال الى اليوم. هو النظام الفاشل نفسه، وهي أسباب الفشل والمفردات نفسها: احتكار، استغلال وفساد... ما تغيّر فعلاً هو اختفاء الأصوات المعارضة المطالبة بحقوقها التي كانت تحتل الساحات بالآلاف، وتسدّ المداخل والمخارج لأي مدينة تستضيف الحركة المطلبية.
أين تلك الحشود والأصوات، والوضع بقي على ما كان عليه، بل صار أسوأ؟ لم يتحسن وضع صيادي الأسماك، ولا عمّال المصانع والمعامل ولا المزارعين والمعلّمين والطلاب، ولم تتحرر فلسطين (في مرحلة ما، اندمجت حركة التحرير والمقاومة مع حركة المطالب الداخلية في لبنان وتغيير النظام). أكثر من عمل سينمائي لمخرجين شباب استعاد مراحل عدة من «الحقبة الذهبية» للحركة المطلبية اللبنانية. كان لا بدّ لهذه الأعمال من تقديم مراجعة نقدية لدور الأحزاب والنقابات التي راجت في الستينيات، خصوصاً في الأوساط الطلابية التي أسهمت في وصول التحركات المطلبية والثورية إلى ذروتها، مع تقييم دور قادة ومثقفي الأحزاب اليسارية والشيوعية والاشتراكية والبعثية... جرس الإنذار الأول ضربه كريستيان غازي في فيلمه الروائي الأول «مائة وجه ليوم واحد» (1970). حمّل عمله الروائي الأول نقداً لحاملي رايات النضال على حساب الفقراء. وبينما أشار إليهم غازي، قتلهم برهان علوية في فيلمه الروائي الأخير «خلص» (2007).

إضراب معمل غندور
وانتفاضة مزارعي التبغ موضوع فيلم ماري جرمانوس الجديد

أما الشابان رانيا ورائد الرافعي فقد توقفا في شريطهما «74... استعادة لنضال» (2012) عند المشهد الطلّابي وصوّرا الحماس المتهوّر الذي انتهى بخيبة. والوصف ينطبق على مرحلة بداية السبعينات بكل أحداثها. وفي «شيوعيين كنا» (2010)، نعى ماهر أبي سمرا ماضياً نضالياً جميلاً، اشترك فيه الجميع في حمل البندقية ضد العدو الوحيد. مقاومة جامعة وأفكار وأحلام مشتركة. لكن في مشاهد الجلسات بين ماهر ورفاقه، وخلال الاطلاع على الخرائط وعلى خطوط التماس الجديدة في المدينة، ينعي أبي سمرا أيضاً بيروت اللقاء، اللقاء من أجل أي شيء. في المقابل، رفض أحمد غصين في «أبي ما زال شيوعياً» (2011) إسقاط الأسطورة التي اخترعها طفلاً، والتخلي عن صورة والده مقاتلاً على الجبهة مع الحزب الشيوعي، وهو ما زال شيوعياً. اليسار هو الخط الجامع بين هذه الأعمال. والسؤال طبيعي عما آلت إليه الحركة اليسارية في لبنان بعد ماض كانت خلاله في الصدارة. في بداية السبعينيات أيضاً، قامت اكثر من انتفاضة مطلبية محقّة، منها إضراب معمل غندور (1972) وانتفاضة مزارعي التبغ عام 1973 . في الواقعة الثانية، نجح معتصمون في احتلال مصنع «الريجي» في النبطية والاعتصام داخله. وتعود المخرجة اللبنانية ماري جرمانوس إلى هاتين الواقعتين في فيلمها «فاطمة» الذي تحضر له حالياً. تبحث المخرجة عن الناس الذين رافقوا أو شاركوا في الانتفاضتين، وعن أصحاب القضية والحقوق ممّن انتفضوا آنذاك وعن خيوط القصة والأسباب التي ولّدت الشرارة. كيف انتهت؟ وما الذي حلّ بالحركة النقابية العمالية وغيرها من النقابات في لبنان؟ إلى جانب دورها في التوثيق لأكثر من مرحلة، تظهر هذه الأعمال المتنوعة في لغتها السينمائية، أسباباً اقتصادية واجتماعية أكثر عمقاً لتفسير اندلاع الحرب الأهلية، متخطية العنوان العريض المعروف أي الانقسام السياسي الطائفي.