مأساة اللبنانيين مستمرة داخل البلاد وخارجها. الدولة الفاشلة التي يهرب منها المواطن لعدم قدرتها على تأمين حد أدنى من العيش الكريم له، تلاحقه أينما ذهب. لا يمكنه التحرّر منها مهما حاول، حتى يصل فشلها إلى ليبيا، حيث يوجد لبنانيون عالقون من دون أن يلتفت إليهم أحد. ينتظرون موت البعض منهم، ربما عندئذ تحاول الدولة إنقاذهم.
500 لبناني وعدد كبير من الفلسطينيين حاملي الوثائق اللبنانية عالقون في المنطقة الشرقية من ليبيا، التي تمتد من الحدود المصرية (معبر مساعد) حتى أجدابيا وتضم مدينة بنغازي. يعيش هؤلاء وسط أعمال العنف والقصف الذي يطاول الجميع هناك. إمكانية الخروج من ليبيا شبه مستحيلة ما لم تتدخّل الدولة اللبنانية لإنقاذهم، إلاّ أنّ الدولة «الساهرة» على أمن مواطنيها ارتأت سحب سفيرها «خوفاً عليه من الخطف أو القتل الذي طاول العديد من سفراء الدول الأخرى»، فيما أبقت المواطنين «العاديين» ليواجهوا ظروفاً صعبة تصل إلى الموت. حالة هلع وارتباك تسيطر على اللبنانيين والفلسطينيين الذين يعيشون في المنطقة الشرقية. ما يزيد الوضع تفاقماً هو افتقار البعض إلى أوراقهم الثبوتية وجوازات سفرهم التي وضعوها في السفارة في طرابلس الغرب بهدف تجديدها، ولم يتمكنوا من الحصول عليها بسبب الاشتباكات. مشكلة أخرى يواجهها المقيمون في المنطقة الشرقية، إذ تبعد بنغازي عن السفارة اللبنانية 1050 كيلومترا، ما يصعّب عملية استرجاع الأوراق.

في ليبيا 1300 لبناني و50 ألف فلسطيني يحملون وثائق لبنانية

كذلك فإن المسافة إلى الحدود التونسية تبلغ 1300 كيلومتر، ما يمنعهم من الوصول إلى تونس لتسوية أوضاعهم. أيمن الصوملي عالق في بنغازي مع شقيقه من دون أوراقهما الثبوتية التي وضعوها في السفارة بغية تجديدها. يروي الشاب معاناته مع السفارة «منذ فترة طويلة أحاول التواصل مع السفارة ووزارة الخارجية، لكن من دون أي نتيجة. كيف لنا أن نصل إلى الحدود التونسية في ظل هذه الأوضاع، ومن دون أي حماية من الدولة؟». ليس اللبنانيون وحدهم الذين يعانون إهمال دولتهم، يضيف أيمن «يوجد في المنطقة الشرقية نحو 2000 عائلة فلسطينية تحمل وثائق لبنانية، أي إن جميع معاملاتها تخضع للسفارة اللبنانية، كل ذلك يحتاج الى متابعة من وزارة الخارجية لإجلاء الجميع». الأعمال والمصالح التجارية التي أخذت هؤلاء إلى ليبيا أقفلت ودمّرت بمعظمها نتيجة الأوضاع الخطرة، وبالتالي لم يعد هناك أي مبرّر لبقائهم ويريدون العودة إلى لبنان. يقول دريد الساحلي إن أخته وعائلتها في بنغازي «لا يعلمون ما الذي يجب فعله، ولا يستطيعون المخاطرة بحياتهم وحياة أولادهم للوصول إلى طرابلس، كما أن السلطات المصرية لا تسمح لهم بالعبور».
السفير اللبناني في ليبيا محمد سكيني، الموجود حالياً في لبنان، يشرح ان «السفارة اللبنانية تكاد تكون السفارة الوحيدة التي لا تزال تقوم بأعمالها في ليبيا، ووزير الخارجية والمغتربين جبران باسيل كلّف منذ 3 أسابيع أحد الموظفين في ليبيا توقيع جميع المعاملات». تعيش في ليبيا 270 عائلة مسجّلة في السفارة، أي نحو 1300 لبناني، إضافة إلى أكثر من 50 ألف فلسطيني يحملون وثائق لبنانية، والسفارة اللبنانية مسؤولة عنهم. يؤكد السفير أنّ في السفارة حالياً 6 موظفين من أصل 11 موظفا «الموظفون الباقون كانوا في إجازات إدارية خارج البلد عندما نشبت الاشتباكات ولم يتمكنوا من العودة إلى ليبيا. هناك وثائق لـ 27 شخصا في السفارة وليس هناك أي وسيلة لإعطائهم إياها». يعترف السفير بعجز الدولة عن حماية مواطنيها في بنغازي والمنطقة الشرقية «الوضع في بنغازي صعب جداً، ولا يمكننا الوصول إليهم من طرابلس بحكم خطورة الطرقات، إلّا أن من يستطيع الوصول إلى السفارة ينجز أوراقه على الفور». المدير العام للمغتربين هيثم جمعة يلفت إلى أن «الاتصالات قائمة مع مصر وتونس والمنظمات الدولية لإيجاد حل». يؤكد سكيني أنّ اتفاقاً حصل مع مصر «يشمل الذين يملكون أوراقا ثبوتية منتهية الصلاحية، يمكّن جميع اللبنانيين والفلسطينيين من العبور عبر معبر مساعد، بشرط أن يملكوا بطاقة سفر من القاهرة إلى لبنان، ويبرزوها عند وصولهم إلى المعبر. عندئذ تمنحهم السلطات المصرية تأشيرة عبور كي يتمكنوا من الوصول إلى المطار في مصر». الحل الذي خلصت إليه الدولة لا يعلم به أحد من الموجودين في بنغازي. السفارة لم تتواصل معهم لإخبارهم هذه المعلومة، التي يمكن أن تُجنبهم موتاً محتوماً، إلا أنه يبقى حلاً تشوبه مشكلة كبيرة وفق أيمن «كيف سنتمكن من اجتياز 80 كيلومترا إلى الحدود المصرية من دون أوراق ثبوتية؟ ومن يضمن لنا حياتنا على الحواجز؟». محمد حرب لا يخفي قلقه من البقاء وعائلته تحت رحمة الصدفة التي عودتنا الدولة اللبنانية إياها، يقول بحسرة «أقسم إن القذائف كانت تسقط قريباً منا. لا نقدر أن نخرج من بنغازي وأوراقنا كلها في السفارة، فجأة وصلتنا أخبار أن السفير غادر وبقينا نحن هنا».