فيما غزّة تدمر وشعبها يذبح، يلف الصمت شريحة أساسيّة من أهل الفكر والإبداع في القاهرة: أولئك الذين لم يقوَ بطش السادات على إسكاتهم، ولا فساد مبارك على تدجينهم واحتوائهم. في الصراع المصيري مع العدو الإسرائيلي، لطالما احتلّت مصر من خلال نخبها الثقافيّة، موقع المرجعيّة والصدارة والقدوة. يكفي أن نستعيد تلك اللحظات البطوليّة التي قادت كثيرين إلى السجن أو المنفى في عهد السادات.
أن نتذكّر كيف بقي الجسم الثقافي حتّى اللحظات الأخيرة من حكم مبارك متماسكاً في مواجهة كل محاولات التطبيع. بعد ٢٥ يناير، هتف الشارع «إحنا صهاينة ولا إيه؟/ معبر رفح مقفول ليه؟». سقط مبارك والمعبر ما زال مقفلاً، و«أحمد العربيّ» يواجه الحصار وحيداً. على البوابة، انتصب حارس جديد، يزايد على سلفه، تاركاً الشعب الفلسطيني يحتضر خلف الأسوار: «ارموا سلاحكم أوّلاً، ثم نرى ما بوسعنا فعله».
أين مثقفو مصر؟ لعلّه ذهول ما بعد الثورة التي استبدلت مستبداً بآخر؟ مشاعر الخيبة واللاجدوى والتعب؟ فخاخ الانتهازيّة والانهزاميّة والبراغماتيّة؟ رد فعل شرس على المتاهة الإسلامويّة؟ حقد دفين على «حماس» التي خبّص بعض قياداتها في وحول «الربيع»؟ مهما يكن من أمر، نجد أنفسنا، في قلب المذبحة، عراة وأيتاماً من دون الوجدان المصري الذي طالما كان منارتنا. نستعيد يوسف شاهين الرافع العلم الفلسطيني في الاعتصامات، المخترق حصار بيروت للقاء الفدائيين. نرى وجوه العشرات بل المئات يقلبون المعادلة ويمارسون على السلطة ضغطاً عظيماً. نردد مع إمام ونجم «يا عرب يا عرب في كلّ مصر/ يا عرب اسمعوا صوت شعب مصر»… أين هو هذا الصوت الآن؟ هل يكون الإنجاز الوحيد لـ«الربيع العربي» أنّه حرمنا منه؟ أنّه فرّقنا وزادنا ضياعاً وانهزاماً؟ أنّه اعتقَلنا في مستنقع آسن من الشوفينيّات القطريّة، والعصبيات المذهبيّة؟… هل هي نهاية مرحلة؟ ألم تعد فلسطين هي القضيّة المركزيّة والبوصلة؟
نلمس الآن تململاً خجولاً لدى النخب الثقافيّة والإعلاميّة المكرّسة في مصر. عساها أزمة عابرة، مخاضاً صعباً، سيعيدنا إلى أنفسنا. لا نريد أن نصدّق أن «الربيع» المتعفّن الذي لم يكن نصيبنا منه حتّى الآن سوى التشرذم والانحطاط والردّة، قضى على المشروع النهضوي، وشطب مصر نهائيّاً من المعادلة، وأخرجها من المواجهة مع إسرائيل. عندها تكون «الثورة» قد حققت أخيراً، بعد عقود من الهزائم، جوهر ما كانت تسعى إليه كامب ديفيد.