جرت أمس الخطوة الأولى نحو كسر جدار التعنت المصري بإعلان الأمم المتحدة موافقة الفلسطينيين والإسرائيليين على هدنة إنسانية غير مشروطة لـ72 ساعة تبدأ الثامنة صباحا. هذه الهدنة تأتي بديلا عن وقف إطلاق النار، البند الذي تشددت به القاهرة وأعاق أي حل سياسي في الأيام الصعبة الماضية، ما يعتبر مدخلاً يسمح للمصريين بالتراجع عن موقفهم الحاد، ويصار بعدها مباشرة إلى عقد مفاوضات مثلثة تتوسط خلالها مصر بين الجانبين الفلسطيني والإسرائيلي.
ووفق ما هو متداول، فإن رئيس السلطة محمود عباس أوفد صائب عريقات إلى الدوحة لضمان عدم قيام قطر بأي دور معرقل. ويبدو أنه حصل من قطر وتركيا على وعد بعدم معارضة انطلاقة مفاوضات القاهرة. ونقل عن مسؤول في حماس قوله إن الاتراك والقطريين على استعداد لإرسال ممثلين عنهم الى القاهرة للمشاركة في المحادثات، وهو أمر يرفضه المصريون على الإطلاق.
أما بشأن الوفد المفاوض، فقد أعدّ عباس مقترحاً بالتفاهم مع المصريين، لتشكيل وفد فلسطيني من 6 أشخاص، بينهم 2 عن السلطة و2 عن حركة «حماس» و2 عن «الجهاد الإسلامي». لكن «حماس» طالبت بوفد يضم خمسة من مسؤوليها من الداخل والخارج، وقالت إنها مصرة على هذا. وسألت عن سبب غياب فصائل فلسطينية أخرى. وهو ما كان عباس يتجنّبه خشية توسيع الوفد بما يمنع التوصل إلى نتائج.
ويقول مقربون من عباس إن «حماس» لا تريد أن تكون واحداً من ثلاثة، بل تريد أن تكون واحداً من سبعة أو ثمانية، وعندها سوف تكون هي صاحبة القرار. من هنا جاء اتصال خالد مشعل أمس بقيادات من الجبهتين الشعبية والديموقراطية وأبلغهما حرص «حماس» على حضورهما في الوفد، وطلب منهما إثارة الأمر مع عباس ومع «الجهاد». أمر ترافق مع اتصالات جرت مع فصائل ميدانية في قطاع غزة من أجل تمثيلها في الوفد أيضاً.
على أن العقبة لا تزال تقف عند رفض إسرائيل هدنة مفتوحة ليس فيها من ضمانات باتخاذ إجراءات كفيلة بحماية جنودها والمستوطنات. وهي أثارت بواسطة الأميركيين أنها تريد ضمانات أكيدة بهدم جميع الانفاق وبتعطيل السلاح الصاروخي كحد أدنى. وهو أمر ترفض المقاومة مبدأ البحث فيه. كذلك فإن عباس أبلغ الاميركيين والمصريين أنه أكثر ما يمكنه القيام به هو تسلم المعابر كافة من حول غزة، وضمان عدم استخدام المعابر لإدخال سلاح أو مسلحين، وأنه سوف يعمل على استعادة دور السلطة الفلسطينية داخل القطاع.

جرى الاتفاق
على أن تكون الهدنة غير مشروطة

أما من جانب المقاومة وفصائلها، فيبدو أن تنسيقاً ميدانياً مركزياً حدث خلال اليومين الماضيين، وتم خلاله تأكيد جاهزية المقاومة للاستمرار في الصمود لمدة طويلة، وأكثر مما يعتقد العدو وبقية الوسطاء، وأنه لا مجال لأي تفاهم ليس فيه أولاً رفع كامل للحصار عن القطاع.
جهود سياسية تتناغم مع دعوات وجهتها 15 دولة في مجلس الأمن أمس إلى «وقف فوري وغير مشروط لإطلاق النار»، مع مطالبتها أيضاً بـ«هدنات إنسانية» لإغاثة السكان.
مصادر من «حماس» ذكرت أن الوفد الفلسطيني المؤلف من فصائل المقاومة ومنظمة التحرير لا يزال في انتظار الترتيبات المصرية لاستقباله، «بعد أن أبلغ رئيس السلطة رسمياً الجانب المصري عن الوفد، لكنه لم يتلق منه (الجانب المصري) أي جواب حتى منتصف الليل». وأشارت المصادر، في حديث نقلته وسائل إعلامية مقربة من «حماس»، إلى أن هناك شعوراً فحواه أن المصريين يماطلون في قضية الوفد رغم أن «الدوحة وأنقرة أقنعتا عدداً كبيراً من الدول الغربية بضرورة رفع الحصار عن غزة، ولا سيما أن الحركة غادرت موقع الحكم في القطاع الذي اعتبرته تلك الدول بمنزلة مبرر لحصارها».
في ظل هذه المعمعة، نقل موقع «الرسالة» المقرب من حركة «حماس» عن عضو المكتب السياسي للحركة، محمد نزال، قوله إن «الوسطاء ومن لديهم اتصالات مع القاهرة أبلغونا قبول القيادة المصرية تعديل المبادرة التي أعلنتها» الأخيرة، «لكننا لم نُبلّغ بهذا رسمياً من مصر حتى اللحظة». وأعاد تأكيد «توافق الفصائل، بما فيها فتح، على تعديل المبادرة، لأن المقاومة ذاهبة لمناقشة التعديلات».
على خط مواز، جرى اللقاء بين عريقات، مساء أمس في الدوحة، وخالد مشعل، ووزير خارجية قطر خالد العطية. وقال عريقات، عقب الاجتماع، إن «الطرف الفلسطيني مستعد للتعامل مع كل المبادرات التي تهدف إلى وقف العدوان، لكن إسرائيل هي التي تريد استمرار مجازرها»، لافتاً إلى أن وجهة نظر «حماس» و«فتح» هي «متطابقة مع الأشقاء في قطر».
فوبيا الأنفاق
ويوماً بعد آخر تتجلى حقيقة أن إسرائيل قد تكون دخلت الحرب ضد غزة بخطة محددة الاهداف، لكنها كانت ترتكز الى رؤى وتقديرات أسقطتها المقاومة في غزة في الميدان، حتى بدت إسرائيل كأنها لم تكن تملك مسبقاً «استراتيجية خروج» من هذه الحرب. في مثل هذه الحالات، عادة ما تصبح الحاجة الى الإبداع السياسي والميداني أكثر إلحاحاً، بهدف إحداث اختراق يغيّر اتجاهات المعركة ويعيد إنتاج معادلات سياسية توفر الارضية لخروج يتسم بطابع الانتصار.
لكن حتى الآن لم تعد القيادة الإسرائيلية قادرة على إخفاء المأزق الذي آلت إليه. فمن قائد يطمح إلى انتصار يشكل رسالة مدوية إلى كل الأعداء الإقليميين، وأداة توظيف سياسي حزبي وداخلي، انتقل بنيامين نتنياهو الى رئيس يبحث عن صورة انتصار ميداني ما، أياً كانت مفاعيلها الواقعية، وتحقق له توازناً في المواجهة الداخلية التي تنتظره، وذريعة يتمسك بها أمام لجان التحقيق التي قد تتشكل. ثم بات نتنياهو يبدو كمن يبحث عن «صيغة إنهاء» لهذه الحرب، بعد استنفاد رهاناته العسكرية.
التطور غير المتوقع، إسرائيلياً على الأقل، كان احتلال تهديد الأنفاق صدارة اهتمامات المؤسسة الإسرائيلية، بشقيها السياسي والعسكري، حتى بات العنوان الأول للحرب، وبات معيار الانتصار والهزيمة محصوراً في هذه القضية. لكن هذه الصدارة لم تأت نتيجة تمكن الجيش من تحقيق الأهداف المطلوبة التي حددت في بداية الحرب، ثم الانتقال الى الاهداف التالية. بل تبلورت الاولويات الجديدة للحرب انطلاقاً من عدة معطيات:
١ــ تسليم إسرائيلي بعجز سلاح الجو عن إحباط استمرار عمليات إطلاق الصواريخ.. التي تستهدف المدن والمستوطنات الإسرائيلية.
٢ــ المفاجأة التي أحدثتها الأنفاق وصدمت المستويات السياسية والعسكرية والاستخبارية، حتى بدت التهديد الاستراتيجي الذي يزاحم خطر الصواريخ من غزة، وبمعايير معينة تتفوق عليها.
٣ــ الإنجازات الميدانية المدوية التي تمكنت المقاومة الفلسطينية من تحقيقها عبر «إبداع» الأنفاق.
وعليه، حدد نتنياهو تدمير الانفاق كهدف للعمليات البرية، مشيراً الى أنه حتى الآن تم تفكيك عشرات الانفاق، «ونحن مصرون على إنهاء المهمة، مع أو بدون وقف إطلاق النار»، ومشدداً على أنه «لن أقبل بأي اقتراح لا يسمح للجيش بمواصلة مهمة استكمال تفكيك الأنفاق». وفي محاولة لإحداث نوع من التوازن في الصورة لدى الرأي العام، بعد الضربات القاسية التي تلقاها الجيش، بفعل الأنفاق، تحدث نتنياهو عن «إنجازات» عملانية وضعها في سياق ما سمّاه «المرحلة الاولى من تجريد قطاع غزة من السلاح»، مشيراً إلى أن «حماس تلقت ضربات قاسية، حيث تم استهداف آلاف الاهداف الارهابية، وبؤر إنتاج الصواريخ ومناطق إطلاقها، ومقتل مئات العناصر». وأضاف أن «الولايات المتحدة والاتحاد الاوروبي والمجتمع الدولي يقبلون الموقف الإسرائيلي حول ضرورة تجريد قطاع غزة من الصواريخ والأنفاق».
في السياق نفسه، رأى نتنياهو أن «قدرة حماس كانت تسمح لها بخطف وقتل مواطنين وجنود الجيش عبر هجمات متزامنة من خلال الأنفاق التي تم حفرها الى أراضينا... نحن نفكك هذه القدرة الآن». وتجنّباً لمفاجأة عملانية، مشابهة لعملية ناحل عوز، ترك نتنياهو لنفسه هامشاً للخطأ، بالقول «لا يوجد ضمانات 100% بشأن خطر الأنفاق، تماماً كما لا توفر القبة الحديدية رداً قاطعاً على القذائف الصاروخية».
من جهته، شدد وزير الدفاع موشيه يعلون على أن «لا حلول وسطاً في ما يتعلق بأمن سكان إسرائيل، ولن نهدأ حتى نستعيد الامن والهدوء»، فيما قال رئيس هيئة الأركان بيني غانتس إن «الجنود يحاربون في ظروف ميدانية معقدة ويؤدون مهماتهم بشكل جيد».
الى ذلك، أعرب مصدر عسكري رفيع المستوى عن اعتقاده بأن العملية العسكرية أعادت حماس خمس سنوات الى الوراء في ما يخص منظومة الأنفاق. وأكد المصدر أنه «سيتم إيجاد حل تكنولوجي لقضية الأنفاق في غضون عام أو عامين»، لافتاً إلى أن «حماس أجرت الاستعدادات للمعركة منذ مطلع العام الجاري».
(الأخبار)