ليست مشاهد من وثائقي «التهجير الأخير» للصحافية رندلى جبور، ولا فصلاً من كتاب الشاعرة ماري قصيفي «للجبل عندنا خمسة فصول». ما يحصل في الموصل، استكمالاً لما بدأ في سوريا بخطف المطرانين وراهبات معلولا وتهجير آلاف المسيحيين، يحصل في صيف 2014. ليس النائب إميل رحمة من يروي «حكاية» اقتراح موفد وزير الخارجية الأميركي السابق إلى بيروت دين براون على الرئيس سليمان فرنجية أن ينقل الأسطول الأميركي المسيحيين اللبنانيين إلى حيث يريدون.
إنهما وزيرا خارجية وداخلية فرنسا ـــ الأم الحنون لمسيحييّ المشرق ـــ من يدعوان مسيحيي العراق، مباشرة على الهواء، إلى التقدم بلجوء سياسي إلى فرنسا لتسهيل انتقالهم من كردستان. هذا يحصل أمامنا الآن. أما أقصى ردود الفعل فتختصر بعبارات التنديد على جدران... مواقع التواصل الاجتماعي!
بطريرك أنطاكيا وسائر المشرق للموارنة الكاردينال بشارة الراعي مشغول. فبعد الاستجمام الصيفي في الديمان، باشر متابعة جولاته على أبرشيات كنيسته: صور تذكارية، ومحاضرات دستورية مستمدة من المرجع الدستوري النائب هادي حبيش، وموائد عامرة برجال الأعمال.
لا شيء يستدعي عقد اجتماع طارئ لمجلس المطارنة الموارنة أو بطاركة المشرق. بطريرك الحوار المنتج بين زعماء الموارنة قد يعقد، في حال اضطره الأمر، خلوة روحية مع «الخليفة». في دير سيدة الجبل، مثلاً، تستهلّ الفنانة ماجدة الرومي الخلوة بباقة تراتيل (ولا بأس بكرسي خال في مقدمة الصفوف للتذكير بالشغور الرئاسي المهول)، فمقدمة حول التقاطع التاريخي بين الكنيسة المشرقية والداعشية كما يوردها «المؤرخ» شارل جبور على صفحته على «فايسبوك». زعيم مسيحيي المشرق النائب ميشال عون لزّم مهمة إنقاذ مسيحيي المنطقة إلى المجتمع الدولي، محمّلاً مجلس الأمن، الذي عبّر مراراً عن عدم ثقته به، مسؤولية إيجاد منطقة آمنة لمسيحيي العراق في بلدهم. وكما تمنع بلدية الحدث العونية غير المسيحي من تملك شقة في الحدث، يفترض بمجلس الأمن منع العراقي غير المسيحي من دخول هذه المنطقة الآمنة. نائب حزب الكتائب سامي الجميل سبق عون في الدعوة الى إنشاء محميّات مماثلة، يعيش خلف أسوارها «نوع» واحد فقط من «الأنواع» المهددة بالانقراض. أما «مسيرة» القوات اللبنانية فتستصعب الاختيار بين «داعش» والنظام السوري، كيف لا و«النظام يستدرج التكفيريين للنيل منه عبر استهداف المسيحيين»!

ليس في تجربة مسيحيي لبنان ما يفترض بالعراقيين أن يتطلعوا الى تكراره



تطول القائمة. عبثاً تبحث عن نقاش جديّ في ما يمكن فعله ـــ لا قوله ـــ لحماية ما تبقى من وجود مسيحيي في العراق وسوريا، والتأكد من قطع طريق «داعش» في مكان ما. تنشغل مواقع التواصل الاجتماعي بالمزايدات، لكن الخطر التكفيري ليس همّّاً عونياً ولا جعجعياً ولا كتائبياً أو كنسياً أو غيره. لا أحد يبالي بما يختبئ فعلاً في جبال القلمون وخلف الحدود الشمالية من الجهتين. ولا أحد يبالي بما يمكن أن يحصل غداً. المهم هو اليوم، وليس الوطن كاملاً، بل النطاق الضيق المحيط بالرابية ومعراب وبكفيا وبكركي.
لا تختلف طبيعة التضامن مع مسيحيي الموصل بشيء عن طبيعة التضامن مع الرياضية جاكي شمعون. موجات افتراضية لا تدوم أكثر من ثمان وأربعين ساعة، تتخللها استعراضات إعلامية. لم يحصل ولو اجتماع مصغر واحد في مراكز صناعة القرار المسيحي لبحث ما يمكن فعله، أو أقله قوله. لا شيء اسمه مشروع سياسي هنا. مجرد عنتريات على المنابر ومزايدات مذهبية ونكايات. فعلياً لا حاجة إلى الذهاب بالراعي وعون وجعجع والجميل وكل الآخرين إلى العراق لاكتشاف لامبالاتهم بمن يدّعون مذهبياً تمثيلهم. يمكن التجوال في القرى والبلدات المسيحية في عكار والمنية وزغرتا وبشري وبعلبك وزحلة والبقاع الغربي والزهراني والشوف وجزين والشريط الحدودي لرؤية نتائج خفتهم: كنائس خاوية يزورها بعض المسنين أيام الآحاد، بساتين لا تجد من يزرعها، مدارس لإرساليات مسيحية لا تتجاوز نسبة المسيحيين بين تلامذتها خمسين في المئة، منازل للإيجار، ودكاكين صغيرة تحتكر المشهد الاقتصادي. حتى ورش الألومنيوم والحدادة وتصليح السيارات والنجارة نزحت إلى ضواحي بيروت. يكاد يستحيل في وسط الأسبوع إيجاد شاب واحد في أي قرية يتراوح عمره بين عشرين وثلاثين سنة. حتى العسكريون وعناصر الأجهزة الأمنية باتوا يشترون شققاً في جبيل أو البترون أو وادي شحرور أو الحدث بدل بناء منازل في قراهم، توفيراً لكلفة المواصلات المادية والأمنية. لماذا؟ لأن رأس الكنيسة مشغول ليلاً ونهاراً بالمطالبة بانتخاب رئيس للجمهورية بدل تثبيت أبناء كنيسته في جمهوريتهم عبر استثمار أراضي الكنيسة وخفض أقساط مدارسها وتكلفة استشفائها. كأن من يهاجرون يفعلون ذلك لعدم وجود رئيس للجمهورية لا لانعدام فرص العمل وعدم تحملهم الكلفة المعيشية الباهظة. ولأن ميشال عون مشغول منذ عام 2005 بتحسين التمثيل السياسي للمسيحيين عن تحسين أوضاعهم الاقتصادية والاجتماعية.
وقبل سؤال عون وغيره عما سيفعلونه لإبقاء الموصليّ في أرضه، لا بدّ من سؤالهم عما فعلوه لإبقاء الجزينيّ في جزين بعدما «حرروا» مقاعد جزين. ماذا قدّم جعجع لمسيحيي لبنان غير «حمايتهم» من حزب الله بالتصريحات الإعلامية ليكون لديه ما يقدّمه الآن لمسيحيي العراق. لا بل لعل مسيحييّ العراق وسوريا، على ما يقول أحد الآباء الفاتيكانيين، محظوظون لعدم مبالاة زعماء مسيحيي المشرق وقادتهم الروحيين بهم. فليس في تجربة هؤلاء اللبنانية ما يفترض بالعراقيين أن يتطلعوا الى تكراره. هم يعجزون عن حل مشاكلهم، فكيف الحال مع مشاكل غيرهم؟ ويشير المصدر نفسه إلى وجوب مقارنة الضرر الذي ألحقته تجربة التسلح المسيحي اللبناني مع الإيجابيات، قبل تشجيع مسيحيي العراق على التسلح، مع العلم بأن النزوح إلى كردستان والجنوب العراقي يمثل أولوية لمسيحيي العراق تتقدم بما لا يقاس خيار الهجرة إلى لبنان، في ظل تقديم النموذجين الشيعي والكردي العراقيين دروساً لمسيحيي العراق أهم بكثير من دروس مسيحيي لبنان. تفاجأ حين تحاور سياسياً من الحزب التقدمي الاشتراكي باقتناعه بأن حرب الجبل كانت خسارة فادحة، رغم أنها رسّخت الزعامة الجنبلاطية وقدّمت للحزب مغانم استثنائية. لماذا؟ لأن نسبة الخسائر البشرية التي تكبدها الدروز مقارنة بعديد بني معروف تجاوزت الحدود المقبولة. ولأنها عسكرت الطائفة وأخلّت بالموازين الاجتماعية والاقتصادية في الجبل، فلم تعد تجد في بعض القرى شاباً يعمل في أرضه. ولا يكفي، في حسابات زعامة الأقلية الدرزية، حسم المعركة عسكرياً لربح الحرب؛ الأهم هو تقليص الخسائر البشرية والبقاء في الأرض. هذا ما لم ولن يلتفت إليه مسيحيّو لبنان.