محمد سليم وهبه*الأضعف يدفع دائماً الثمن في حرب الكبار. التهمة دائماً جاهزة: أسلحة الدمار الشامل، الإرهاب، تبييض الأموال، الابتزاز، التهرب الضريبي... الأقوى يكتب التاريخ وتكون كذبته هي الحقيقة أمام العالم والرأي العام.

مسلسل ملاحقة الادارة الاميركية لمصارف لبنانية أو مملوكة من لبنانيين، بتهم تبييض الأموال، لم (ولن) ينته. آخر فصول هذا المسلسل الاتهام الذي وجهته وزارة الخزانة الأميركية إلى مصرف FBME، وهو أحد المصارف في مجموعة تضم بنك «فيدرال» لبنان.
لم يقدم الاتهام اي دليل يثبت صلة حزب الله بعمليات تبييض الاموال من خلال هذا المصرف، واكتفى بالزعم ان أحد ممولي حزب الله اودع مئات ألوف الدولارات في حساب احد الزبائن في قبرص عام 2008.
تحت الضغط، قرر البنك المركزي القبرصي وضع يده على بنك FBME، معلناً أنه بموجب الصلاحيات المخولة إليه، قد عيّن اعتباراً من 19 تموز 2014 إدارة موقتة لفرع بنك FBME في قبرص. فيما نفى البنك في بيان رسمي المزاعم الاميركية، وقال انه سيتعاون مع البنك المركزي القبرصي، واعلن انه كلّف شركة تدقيق ألمانية للرد على هذه المزاعم.

انشاء خلية ازمة مؤلفة من كل المصارف لاستباقها إعلامياً وسياسياً
لم يرأف للمصرف انه انقذ قبرص مالياً عام 2012، اذ عمد إلى استثمار 13% من ميزانيته الإجمالية في سندات الخزينة القبرصية المصنّقة عند درجات سيئة جداً. وقبرص لا يمكنها الا ان تعتبر ان التهمة كافية، رغم ان التهم بمجملها لا تتعدى مبالغ تصل الى بضعة ملايين الدولارات لمصرف رأسماله في تنزانيا 2 مليار دولار، من دون الحديث عن مليارات الايداعات وملايين المودعين. فاين الموضوعية في الاتهام؟ خصوصا انه يمكن تركيب تهم، ولا يلزم لذلك العديد من الاشخاص والكثير من الاموال.
التقارير الصادرة عن الخزينة الاميركية تشبه التقارير التي افادت ان العراق يملك اسلحة دمار شامل. تقول ان مصرف FBME ضالع في غسل اموال وفقاً للقسم 311 من قانون باتريوت آكت أو قانون مكافحة الإرهاب، من دون ان تقدّم اثباتاً، وتكتفي بالذكر أن هناك أسباباً معقولة من دون معرفة نسبة «المعقولية».
المؤسف ان قوانين مكافحة تبييض الاموال المعتمدة على صعيد دولي، ومنها القانون رقم 318 في لبنان، تعتمد في بنيانها على الشك، وتفرض حماية الشهود حتى لو كان ذلك مرتبط بسوء النية، فالشك هو الاساس، وتعاقب المؤسسة التي تشك في اي عملية من دون الابلاغ عنها، فعدم الابلاغ عن الشك جريمة يعاقب عليها القانون، حتى وان كان هذا الشك فيه انحياز او انه غير موضوعي او يحركه عامل نابع من مصلحة شخصية. كل شك يفترض اخذه في الاعتبار، بحسب هذه القوانين، وعلى الدولة ان تحمي الشخص الذي يبلغ عن الشك في اطار حماية الشهود.
الاتهام هو في اطار الحرب الدائرة بين الولايات المتحدة الاميركية من جهة وروسيا وايران من جهة ثانية، وقد تكون له ارتدادات قد تتسرب الى القطاع المصرفي اللبناني. فالاتهام الاخير له سابقة، إذ اوردت جريدة «وول ستريت» ان المصرف منغمس إلى حدّ كبير في تعويم قبرص مالياً، وأنّ قبرص تقف على رجليها بفضل روسيا ومصرف تانزاني مملوك لبنانياً. ولذلك يمكن فهم تطور الاتهام انه ياتي في اطار السعي لإضعاف قبرص مالياً للسيطرة على مخزون الغاز والنفط الموجود قبالة شواطئها.
نتيجة للضعف المالي القبرصي لا يمكن توقع تصرفاتها السياسية المستقبلية، فنقوسيا تطلب 22 مليار دولار لدعم ميزانيات مصارفها المكشوفة على اليونان، والاخيرة تعاني أزمة حادة في ماليتها العامّة. هذا المبلغ يُساوي حجم الناتج المحلي الإجمالي للجزيرة، وإذا اقترضته قبرص فإنّ معدّل دينها العام إلى ناتجها سيرتفع إلى 145%. هذا المستوى غير مستدام أبداً خصوصاً إنّ معايير الاتحاد الأوروبي تنصّ على ضرورة ألا يتخطّى المعدّل عتبة 60% لكي تبقى الاقتصادات وماليتها العامّة بعيدة من المخاطر من تداعيات الاقتراض المفرط.
في ظل الصراع الاميركي ـ الروسي ـ الايراني، وفي اطار العقوبات الاقتصادية الاميركية، تحوّل «فيدرال بنك للشرق الاوسط» الى كبش المحرقة، فالاتهام شكل رسالة الى روسيا وايران نظراً إلى وجود فرع للمصرف في روسيا من جهة، وكون الاتهام يتعلق بايداع مبالغ لأشخاص قد يكونون من حزب الله من جهة ثانية، وهذه الشكوك منبعها سياسي بحت.
الاتهام بطريقة غير مباشرة يطاول صميم الاقتصاد اللبناني في بنيته، ويطاول القطاع الوحيد الذي لا زال الداعم الاهم لسيرورة واستمرار الثبات المالي في لبنان وهو القطاع المصرفي، هذا في ظروف سلبية ناتجة من الصراعات السياسية والاجتماعية والطائفية والمعيشية والخدماتية والاقليمية والدولية والنفطية، والتي اثرت في الامن وهو المعطى الاساسي للعملية الاقتصادية.
بالاضافة الى ظروف تراجع تدفقات رؤوس الأموال الخاصّة الوافدة إلى لبنان، والتي بلغت 4.9 مليار دولار في 2013، والتي شكّلت تراجعاً بنسبة 30% عن عام 2012 عندما بلغت 6.9 مليار دولار، مقارنة بتدفقات وصلت إلى 7.5 مليار في 2011، والتي قد لا تتعدى 2,8 مليار دولار عام 2014، فضلاً عن تردي الاقتصاد اللبناني مع توقع تراجع في معدل النمو الاقتصادي اللبناني في 2014 الى 2.2% و3% عام 2015، والذي يرفع من مؤشر مخاطر السوق في لبنان.
الاخطار الحالية التي تعصف بلبنان هي انعكاس واضح للصراعات الدولية التي تتمحور حول اعادة تقسيم الثروات وحماية اسرائيل، ولا يمكن الركون الى الطمأنة الاميركية، فسيف الارهاب مصلت على رقابنا من منبع جهوزية الاتهام في اي لحظة خاصة واننا انفسنا لسنا قادرين على تمييز الاشخاص التابعين للمقاومة من غيرهم من المواطنين اللبنانيين، حزب الله يمثل شريحة كبيرة من المجتمع اللبناني، وكل لبناني من 8 آذار هو مشروع اتهام كونه قريب من المقاومة.
نظراً إلى جهوزية اتهام القطاع المصرفي في خطر، وعلى المصارف في اطار الرقابة الاحترازية التنبه الى هذا الواقع والاسراع في انشاء خلية ازمة مؤلفة من كل المصارف، واستباق الازمة إعلامياً وسياسياً، وتكوين صندوق لمواجهة الازمات التي قد تعصف في القطاع وبسمعته وخصوصاً بما يتعلق بالاتهامات التي قد تطاول الحلقة الاضعف في القطاع المتمثلة بالمصارف الصغيرة والمتوسطة وربما الكبيرة وهي غير قادرة لوحدها على مواجهة العاصفة.
* استاذ في الجامعة اللبنانية