ترجلت الطفلة نانسي من الباص الذي أقلها من منزلها في جبل محسن، وهي تمسك بيّد صديقتها سارة من باب التبانة. دخلت الطفلتان إلى مطعم "أكواريا" في منطقة الميناء في طرابلس، ليتشاركا مع أطفال آخرين إفطاراً رمضانياً نظمته لهم جمعية "نحن نحب طرابلس" بالتعاون مع جمعية "رواد التنمية".أول من أمس، كان المشهد داخل المطعم جميلاً. هو في الغالب مشهد غريب عن لفظ "باب التبانة-جبل محسن" الذي ارتبط بالتوتر الاهلي على مدى ست سنوات. حوالى 40 طفلاً (20 من جبل محسن و20 من باب التبانة) تتراوح أعمارهم بين 6 و10 سنوات، أنهكهم اللعب معاً هذه المرة، وليس صوت الرصاص والقذائف من حولهم. ضحكوا، ركضوا، رقصوا وغنوا، من دون أن يغتال أمراء الحرب لحظاتهم الجميلة. علي حمل صديقه خالد مساعداً إياه في تسلق إحدى الألعاب الهوائية الضخمة. واستبدلت الطفلتان انجي وشيماء احذيتهما عن طريق الخطأ، بعدما كانتا قد خلعتاهما للعب، فأخذتا تضحكان بشدة بعد اكتشافهما الأمر. بينما ركض محمد وحسن وعلي نحو الباحة المخصصة للرسم على الوجوه، وطلبوا من الفتاة المسؤولة أن ترسم لهم الرسم نفسه. وأطفال آخرون توجهوا لرؤية الحيوانات الموجودة داخل الأقفاص. راح احدهم يروي قصصاً عن بطولاته مع كلبه الأليف في منزله في جبل محسن. فرد عليه آخر "وأنا كمان بالتبانة عندي واحد كبير كتير، باخدو على الصيد انا وابي؟". ثم، أكمل الطفلان حديثهما على عجل، بعدما نادى عليهما مسؤولو الجمعية ليباشروا بالإفطار.
على سفرة واحدة جلس أطفال المنطقتين المتناحرتين. لم يأبه أي منهم لمعرفة هوية الطفل الآخر أو مكان سكنه. وإن سألتهم يجيبون بتلك العبارة التي يسمعون بها ويتعلمون قولها: "نحنا من لبنان". واحد منهم قال: "أنا من بيروت، هلق جيت وراجع رويح". إلا أن كلمة "رويح" التي نطقها بعفوية اللهجة الطرابلسية المحببة فضحته، وضحك كل الحاضرين. وفجأة، ارتفع صوت أحد الأطفال كمن يقلّد الكبار وهو يقول "نحنا كلنا إخوة أصلاً". وبدأ بسرد احواله في أحداث الحرب بين التبانة وجبل محسن. قال بكلمات قليلة "بس كان يجي الباص ياخدنا من المدرسة بكير، كنا نعرف انو علقانة". فرد صديقه "بس كنا نضل نتلفن لبعض ونحكي مع بعض، أهالينا بيقولولنا انو نحنا ما خصنا بالحرب". وتذكرت إحدى الصغيرات يوم سقطت قذيفة أمامها وشقيقتها اثناء مرورهما على الطريق. يومها قال لي أبي "ما تخافي اذا متي، انت بتطلعي على الجنة يا بابا". وعن الفيديو المصور الذي انتشر على مواقع التواصل الاجتماعي وتظهر فيه طفلة صغيرة من باب التبانة، تطلق الرصاص من بندقية والدها نحو جبل محسن، روت الطفلة دلال ان الفتاة المذكورة صديقتها "وهي ما كان بدها تقوص لأن ما بتحب الرصاص وبتخاف منو، بس ابوها هيك بدو. والله هي هيك قالتلي". بينما أجابها طفل آخر "لا هيدا الفيديو مركب انا هيك ابي قال، وابي بيعرف كل شي".
لا بد من أن وجود أطفال باب التبانة وبعل محسن على طاولة واحدة ما كان ليتم لو لا تدخلت "العناية الأمنية" بعد سنوات كثيرة من العنف، وأوقفت حمام الدم الذي شهدته المنطقتان. إلا أنه حتماً حدث لن يكون الأخير من نوعه، طالما أن في ذاكرة هؤلاء الصغار مشاهد حرب يتوقون إلى استيعابها والعودة الى احلام الحياة.