غزة | بدأت إسرائيل الحرب حين أعلنت اسماً لمعركتها وشنت العدوان على قطاع غزة تحت شعار القضاء على المقاومة مستغلة التغيرات الإقليمية وانتهاء حكم الإخوان المسلمين واعتلاء العسكر الحكم في مصر. كل هذا حشر الفصائل، وفي مقدمتها حركة «حماس» في الزاوية، ووضع القطاع في أزمة اقتصادية وسياسية كبيرة بالترافق مع حملة إعلامية ضدها، وهي ظروف كادت تودي بالقطاع إلى الهاوية.
جاءت الحرب لتصوب البوصلة بطريقة أو أخرى، لكن المقاومة تؤكد أن من بدأ المعركة لن يحدد نهايتها في إشارة إلى الاحتلال. حتى عن السياسيين، ترى الأذرع العسكرية التي تأتمر بأمرهم وفق تسلسل تنظيمي أن القرار الأول والأخير هذه المرة للمقاومين في الميدان. في هذا الصدد، يؤكد مصدر عليم في كتائب القسام (حماس) لـ«الأخبار» أن مؤشرات كثيرة قبل الحرب انتبهت إليها الكتائب وتابعتها بدراسة الواقع السياسي بدقة كبيرة. بناءً على ذلك جرى وضع خطط واستراتيجيات لمواجهة عدوان واسع على القطاع والاستعداد لذلك من جميع الجوانب.
لعل هذه المعركة مختلفة عن سابقاتها، فقد بات العسكر هم سادة القرار. يخططون وينفذون ويملون الشروط. على السياسي، وفق المصدر، أن يوصل صوت العسكري ويفاوض نيابة عنه، «وليس كما كان في السابق حين ينتظر القسامي القرارات السياسية ليصعد في مواجهة صارت الآن مفتوحة».
لا غرابة في ذلك، فهو نفسه ما أكده المتحدث الرسمي باسم الكتائب، أبو عبيدة، في مقابلة سابقة مع «الأخبار» قبل الحرب بمدة بسيطة. قال في ذلك اليوم إن «الاحتلال عدو وسيبقى كذلك، فما الحاجة إلى القرار السياسي حتى نرد على حرب تشنها إسرائيل؟... هل يمكن انتظار قرار للدفاع عن النفس في حين أنه حق طبيعي إضافة إلى أنه منصوص عليه في اتفاقات المصالحة».

خلال صفقة شاليط
كانت قيادة القسام هي التي
تدير المباحثات

ومع إشارة مراقبين إلى أن الاتصالات مراقبة، فإن القيادة السياسية، وخاصة في الخارج، لا تحدد بالضبط للمقاومين الأهداف التي يجب ضربها بالتحديد أو طبيعة العمل، لكن تعطى أوامر عمومية وتترك الحرية للقيادة الميدانية في العمل وفق الخطوط العامة. هنا تحديداً تذكر مصادر سياسية داخل «حماس» أن المعايير انقلبت في المواجهة الأخيرة، «خاصة أن هناك عملاً يجري على غرار ما فعله حزب الله في لبنان، فهو يتحدث بالبندقية واليد القوية التي تكسر الاحتلال، وفي المقابل تترك المفاوضات وتسيير أمور الناس على الحكومة والقوى الوطنية الأخرى»، في تأكيد لمعادلة ترك الحركة للحكومة وشؤونها.
ما يؤكد هذا الواقع أن الميدان كان هو المتحكم الأول والأخير بمجريات المباحثات السياسية، فتارة تسعى إسرائيل إلى تهدئة بأي ثمن، فيما ترفضها «حماس»، وتحديداً «القسام» التي أخذت على عاتقها إثبات قوة المقاومة، وقدرتها على إملاء شروطها، فيما على الجانب الآخر تنفيذها.
عاد المصدر العسكري من «القسام» ليحكي لـ«الأخبار» أن «القسام» تمتلك من القدرة والقوة ما يمكنها خوض المعركة لشهور، «لذلك أبلغنا القيادة ألا تتنازل هذه المرة عن أي بند من بنود الهدنة، بما فيها فتح المعابر ورفع الحصار وتسهيل حركة المواطنين»، مشدداً على أن هذا القرار تعلمه القيادة السياسية، وهو ما ظهر في خطاب رئيس المكتب السياسي للحركة، خالد مشعل، أمس.
وتابع المصدر: «مهما طالت المفاوضات حول التهدئة، فلن تغير حماس ولا حتى الجهاد الموقف، فقيادتا الحركتين تعلمان ما لدى القيادة العسكرية التي تملك السلاح والقوة في الميدان».
هذا كله أعطى حرية كبيرة للأذرع العسكرية في التحرك شمال القطاع وجنوبه وشرقه، وبدا جلياً في العمليات النوعية التي نفذتها المقاومة وأجبرت فيها إسرائيل على الاعتراف بخسائرها البشرية، ووصفها بأنها من أصعب المعارك التي خاضتها ضد غزة.
رغم ذلك، قال المصدر السياسي إن هناك مناورات إعلامية تدور بين إسرائيل والمقاومة تجعل تقدير الموقف أكثر صعوبة، وخاصة لدى المحللين الذين يرون نسبة المغامرة عالية في ما يجري، لكنه بين أن هذه الأيام من الحرب (بعد أسبوعين) هي «مرحلة عض الأصابع وأيضاً هي الأصعب، فالمقاومة تعمل على نهج نكون أو لا نكون، وخاصة في ظل تغير المعادلات السياسية».
على عكس ذلك، يرى الكاتب والمحلل السياسي، حسام الدجني، أن «القسام» ليس مالك القرار وحده، «فله مرجع أساسي هو القيادة السياسية، والأمر هو نفسه عند كل فصائل المقاومة»، لكنه اعترف بأن المدخل الرئيسي في صناعة القرار هو مسار العمليات على الأرض. يقول لـ«الأخبار»: «ما دام التفوق للمقاومة، فمن حق السياسيين التمسك بشروطهم التي تنسجم مع مطالب الشعب، وهذا سر التمترس خلف المطالب والتشديد عليها».
ويرجح الدجني بناءً على ما يدور في الميدان أن تستعجل إسرائيل التهدئة من طريق وساطات وأن تبدي مرونة في دراسة شروط المقاومة، «لكنها تبحث عن صياغات تحفظ ماء وجهها في الوقت نفسه»، متوقعاً أن يكون اليومان المقبلان حاسمين في المشهد وتحديد مساراته.
أما الكاتب أكرم عطا الله، فيؤكد أن «حماس» حركة متكاملة ومتداخلة، «ولا يستطيع أحد التمييز بين ما هو عسكري وما هو سياسي، لأن الذراعين في النهاية يتبنيان النهج نفسه». عن المشهد الجاري، يقدر أن هناك اشتراكاً في الموقف المتعلق برفض المبادرة المصرية، مستدركاً: «هنا يمكن تقدير أن تشديد الرفض جاء بناء على رؤية من العسكر، لكن المؤكد أن المقاومين لن يستطيعوا خوض غمار المفاوضات التي سيوقع عليها السياسيون».
عند هذه النقطة، قال المصدر العسكري إن «القسام» استطاعت الحفاظ على الجندي جلعاد شاليط أسيراً لخمس سنوات كان فيها الشهيد أحمد الجعبري هو المسؤول المباشر عن إدارة المفاوضات في الصفقة عام 2011، «وما كان النجاح لولا نجاعة العسكري الذي يتميز بالصلابة والثقة ولا يلين أمام أي متغيرات ميدانية أو حتى سياسية لأنه يعلم ما بين يديه».
تعليقاً على ذلك، يضيف عطا الله: «لا شك أن الميدان له تأثير على المحاور التي يتحدث فيها الساسة، لكن القرار في النهاية سيصبّ عندهم لأنهم، السياسيين، يطلعون على مجريات الأمور إقليمياً ودولياً، لكن حديثهم سيكون انعكاساً واضحاً لما يريده المقاومون والناس».