هي المرة الثالثة، التي يوضع فيها على طاولة مجلس الوزراء، اقتراح وزارة البيئة إعداد مخطط توجيهي لحماية قمم الجبال والمناطق الطبيعية وتنظيم استثمار الشاطئ والمساحات الخضراء والأراضي الزراعية في لبنان. المرة الأولى كانت في آب ٢٠١٢ في عهد حكومة «قولنا والعمل». غادرت حكومة الرئيس نجيب ميقاتي قبل أن تقر هذا الاقتراح وانضم إلى مئات الاقتراحات الأخرى التي بقيت عالقة في أدراج الأمانة العامة لمجلس الوزراء.
أجرى وزير البيئة محمد المشنوق، مجموعة تعديلات على الاقتراح، بناءً على الملاحظات التي تقدمت بها الوزارات المعنية، وطرح على جلسة مجلس الوزراء في جلسته التي عقدت في ٢٢ أيار ٢٠١٤، لكن الاقتراح لم يناقش. لعل الثالثة تكون ثابتة هذه المرة، إذ أدرج هذا الاقتراح على جدول أعمال جلسة ٣ تموز الجاري، فأُجِّل إلى الجلسة الماضية فلم يناقش، وهو يطرح غداً على جدول الأعمال بعد أن غابت جلسة الحكومة الأسبوع الماضي، في إجازة قسرية لغياب التوافق.
يؤكد الوزير المشنوق أنه «آن الأوان للسير بهذا الاقتراح قبل أن يمتد العمار العشوائي على كل الجبال والمناطق الطبيعية والأراضي الزراعية والمساحات الخضراء والمناطق الساحلية فتكون الكارثة على جميع الصعد».

أولوية المستثمر على البيئة

يهدف هذا الاقتراح إلى تنظيم عملية الاستثمار في المناطق الحساسة، قبل أن يُقضى على الإرث الطبيعي للبنان وخزانه المائي والسياحة، بالإضافة إلى تفاقم أزمة الأمن الغذائي. وينص على تكليف مجلس الإنماء والإعمار بالتنسيق مع وزارة البيئة ومجموعة من الشركات المختصة بالهندسة والتنظيم المدني والاستشارات البيئية بأعداد المخطط التوجيهي المذكور. كذلك تقترح وزارة البيئة أن توضع مهلة زمنية لا تتجاوز ستة أشهر قابلة للتمديد شهراً ونصف شهر، لإنجاز المطلوب بالتنسيق مع لجنة تمثل وزارات البيئة والطاقة والمياه والأشغال العامة والنقل والزراعة والداخلية والبلديات ومجلس الإنماء والإعمار. ويكلف التفتيش المركزي لجنة للمراقبة إلى حين أن يقر مجلس الوزراء المخطط المعدل.

تقدر وزارة البيئة كلفة المخطط التوجيهي بـ ٧٥٠ ألف دولار أميركي


والنقطة الأهم، التي تطرحها وزارة البيئة، تتعلق بإعطائها الحق وفق قرار معلل، في تأجيل البتّ بدراسات تقويم الأثر البيئي والتقويم البيئي الاستراتيجي، العائدة لأي مشروع في هذه المناطق (قمم الجبال، الشواطئ، المناطق الطبيعية، المساحات الخضراء، الأراضي الزراعية) من تاريخ صدور قرار مجلس الوزراء بالموافقة على إجراء هذا المخطط ولحين إقراره نهائياً من قبل مجلس الوزراء.
يتبين من الملاحظات التي تقدمت بها الوزارات المعنية عندما طرح المشروع في عهد حكومة الرئيس ميقاتي، أن مجلس الإنماء والإعمار اعترض على مهلة الستة أشهر وعدّها غير كافية، كذلك رفض إعطاء وزارة البيئة الحق بتأجيل البت بالمشاريع التي تقع ضمن هذه المناطق الحساسة، مشيراً إلى أن من شأن ذلك تجميد العديد من المشاريع التي يمكن أن تكون مفيدة لهذه المناطق، دون أن تؤثر ببيئتها، وأن من شأن تطبيق مرسوم تقويم الأثر البيئي تأمين الضوابط المطلوبة. وهنا يتبين بوضوح «حرص» مجلس الإنماء والإعمار على عدم توقف مشاريع استثمارية خاصة، وبمعنى أدق، تهريب عدد من هذه المشاريع قبل التصديق على المخطط الجديد. (شاطئ الدالية مثالاً).
ردت وزارة البيئة بالقول إن المشاريع السكنية الضخمة لا يمكن ضبطها من خلال مرسوم تقويم الأثر البيئي وحده، إذ أنه في معظم الأحيان تغيب النصوص التي تحدد أهمية المحافظة على الغطاء الأخضر في هذه المناطق.
وفيما وافقت بقية الوزارات على الاقتراح، رفضته وزارة الأشغال جملة وتفصيلاً، مشيرة إلى أن إعداد المخططات التوجيهية هو من صلاحيات المديرية العامة للتنظيم المدني، لتعرضها بدورها على المجالس البلدية لإبداء رأيها، وبعدها تعرض على المجلس الأعلى للتنظيم المدني، الذي يمكنه تعديلها ومن ثم تصدق وتصبح نافذة بمرسوم يتخذ في مجلس الوزراء بناءً على اقتراح وزير الأشغال العامة والنقل. مع الإشارة إلى أن رفض الوزارة كان في عهد الوزير غازي العريضي، فيما لم يقدم الوزير غازي زعيتر ملاحظات على المشروع عندما أُعيد إرساله إلى الوزارة!
وتساءلت وزارة المالية عن كلفة هذه العملية ومدى توافر الاعتمادات اللازمة لكي تبدي الوزارة رأيها، فأجابت وزارة البيئة بأن الكلفة تقدر بـ ٧٥٠ ألف دولار أميركي، على أن تفصل هذه القيمة خلال عملية المناقصة، بالتنسيق مع مجلس الإنماء والإعمار، وطلبت تأمين الاعتماد حتى ولو لم يكن ملحوظاً في موازنة الوزارة. وأخيراً طلبت وزارة المالية إعادة الملف إلى البيئة لتحديد التنسيب الملائم للنفقة ليصار إلى إعداد مشروع المرسوم اللازم. ولقد بادرت البيئة إلى تحديد التنسيب ضمن نفقات دروس واستشارات ومراقبة مختلفة.

زحف الباطون

من المعلوم أن هناك العديد من العوامل الداخلية والخارجية التي أسهمت في ازدهار قطاع البناء، وهو المسبب المباشر للتوسع العمراني. من العوامل الداخلية يندرج أولاً النمو السكاني السريع والتركيبة العمرية الشابة في لبنان، إذ أصبحت الحاجة ملحّة لبناء وحدات سكنية جديدة. وبسبب اللجوء إلى الرفاهية في أساليب الحياة، ازداد الطلب أيضاً على بناء مساكن ثانوية كالشاليهات والمنتجعات في الجبال وعلى الشواطئ، ما شكل تعدياً صريحاً على الأملاك البحرية، وأدى إلى نمو المدن بنحو عمودي وأفقي على حد سواء. وقد أسهمت عوامل عدة أخرى في تطوير قطاع البناء، منها إعادة إعمار لبنان بعد العدوان الإسرائيلي في عام ٢٠٠٦، والمضاربات على أسعار العقارات وغياب الضريبة على العقارات غير المبنية في المناطق المصنفة للبناء، وتسهيل عملية تملك الأجانب وخفض الضريبة على التملك في لبنان للمستثمرين، ولا سيما في المناطق الجبلية.

ترفض وزارة الأشغال العامة والنقل المشروع وتعدّه من صلاحيتها وحدها

وبحسب تقرير أعدته وزارة البيئة، فإن نمو المدن الأفقي هو سبب في تراجع مساحة الحقول الزراعية، ما أدى إلى تزايد القلق حيال الأمن الغذائي. وبحسب دراسة للمركز الوطني للاستشعار عن بعد، تآكلت المساحات الزراعية من ٣٣٢٤ كلم مربع عام ٢٠٠٢ إلى ٢٩٤٤ كلم مربع عام ٢٠١١. كذلك تراجعت المناطق الحرجية، وخصوصاً في المتن، وتحديداً في بيت مري وبرمانا وبعبدات وبحرصاف. كذلك تراجعت مساحة المناطق الطبيعية والجبال، وهي ذات أهمية بيئية فريدة مثل فيطرون في كسروان وفنيدق في عكار. وبديهي القول إن المشاريع الكبرى في هذه المناطق لم تأخذ باية معايير بيئية أو اقتصادية أو اجتماعية في مراحل البناء والتشغيل.
كذلك يُسهم البناء العشوائي في المناطق الريفية وفي الجبال والمرتفعات في تدهور المناظر الطبيعية وتشويهها. وأكثر المناطق حساسية هي الجبال التي تغدق على لبنان أهم ثرواته الطبيعية، وهي المياه. يمكننا أن نتخيل ما كان سيحدث لو قدر لمشروع مثل «صنين زينة لبنان» أن يستكمل عمله في منطقة تعد خزان لبنان المائي بلا منازع. فالمنتجعات الجبلية تلوث المياه الجوفية بسبب غياب شبكات الصرف الصحي ومحطات المعالجة، فتبنى الجور الصحية بنحو غير احترافي وبغياب أي مراقبة أو فحص من قبل البلديات، وتصرف المياه المبتذلة دون قيد أو شرط وتلوث مصادر المياه من ينابيع وأنهار وبرك. أما على مستوى الأنظمة الإيكولوجية، فإن المنتجعات تفكك الطبيعة الجبلية إلى وحدات أصغر، فتسبب أضراراً للحياة البرية. ويسبب الضجيج والنور المصطنع عند حلول الليل إزعاجاً للحياة البرية، وبذلك تحدث هذه المنتجعات ضرراً لا يعوض ليس على البيئة الطبيعية فحسب، بل على نسيج القرى والمناطق الريفية أيضاً.

تآكل الشواطئ

واقع الساحل اللبناني، ليس أفضل، فقد سببت المنتجعات السياحية تآكل الشواطئ التي تُعَدّ أملاكاً عامة، وتشارك في تلوث المياه البحرية، عبر صرف المياه المبتذلة ومياه أحواض السباحة مباشرة في البحر، وغالباً بدون أي معالجة، بما يخالف تعهدات لبنان الدولية، ولا سيما معاهدة برشلونة لعام ١٩٧٧ المتعلقة بالمحافظة على البحر الأبيض المتوسط وحمايته من مصادر التلوث. إضافة إلى المراسيم باشغال الأملاك العامة البحرية التي تعطى دائماً بصورة استثنائية وتسبب ردم عشرات الكيلومترات على طول الساحل اللبناني (ضبية، النورماندي، صيدا، الجية، وغيرها)، الأمر الذي يسبب تدمير الموائل البحرية ومصائد الأسماك والجرف القاري. ولا تتوقف الانتهاكات التي يتعرض لها الساحل عند المشاريع الخاصة، بل تصل إلى بناء منشآت عامة لمعالجة المياه الآسنة في مواقع مصنفة مثل الجية، حيث يبني مجلس الإنماء والإعمار محطة لتكرير المجارير على عقار مملوك من قبل وزارة الثقافة، ويحوي آثاراً فريدة وجميلة.
ما هي التدابير التي اتخذتها الحكومات المتعاقبة؟ أعدّ مجلس الإنماء والإعمار الخطة الشاملة لترتيب الأراضي اللبنانية، وقد ترافق ذلك مع إعداد ثلاثة مشاريع قوانين تتعلق بحماية قمم الجبال وحماية الساحل ومشروع القانون المتعلق بالحدائق أو المتنزهات الوطنية. ولقد ورد في هذه الخطة بند يتعلق بحماية الجبال والمرتفعات عبر إنشاء حزام خاص بها يحميها من التمدد العمراني.
تصف الخطة الشاملة الخصائص الحسية المؤثرة في استخدام الأراضي والتحديات المستقبلية والتركيبات البديلة لاستخدام الأراضي وتطويرها. كذلك تقدم خطط عمل قطاعية للنقل والسياحة والطاقة والمياه والبيئة والتعليم. وقد نشر التحليل النهائي عام ٢٠٠٤ ووافق مجلس الوزراء على هذه الخطة بعد خمس سنوات وصدرت بمرسوم حمل الرقم ٢٣٦٦/٢٠٠٩. تلا ذلك تشكيل لجنة تضم الوزارات المعنية، ورغم أن هذه اللجنة عقدت العديد من الاجتماعات، إلا أنها لم تنجح في إنفاذ الخطة الشاملة وتطبيق بنودها. ولم يتغير تخطيط استخدام الأراضي إلى حد كبير، ومن الأمثلة على ذلك إجازة مجلس الوزراء، بناءً على اقتراح من وزارة الأشغال العامة والنقل، مشروعاً سياحياً يتضمن ردماً لجزء من شاطئ كفرعبيدا في الشمال، رغم أن هذا الشاطئ محمي بموجب الخطة الشاملة لترتيب الأراضي. كذلك، لم تدخل الحكومات المتعاقبة الخطة الشاملة لترتيب الأراضي في أنظمة التنظيم المدني الإقليمية، ولم تعمّمها المديرية العامة للتنظيم المدني بالتوافق مع البلديات.

يمكنكم متابعة بسام القنطار عبر | http://about.me/bassam.kantar





الأسباب الموجبة

تقدم وزارة البيئة العديد من الأسباب الموجبة للتصديق على اقتراح المخطط التوجيهي، الذي أدى غيابه إلى التوسع العمراني العشوائي في جميع المناطق. فالمخططات التوجيهية غائبة عن نحو ٨٤ بالمئة من مساحة لبنان، وذلك بحسب إحصاء عام ٢٠٠٤.
تخضع هذه المناطق غير المصنفة لعاملي استثمار محددين: الاستثمار السطحي والاستثمار العام. وغالباً ما تكون المخططات التوجيهية غير ملائمة ومبهمة. ونادراً نرى مخططات توجيهية صُمِّمت بصورة شاملة، فمعظمها لا تضم البنى التحتية اللازمة لتشمل الأمور البيئية والمرافق الاجتماعية والاقتصادية للمجتمعات.
الأمثلة عديدة على التوسع العمراني العشوائي، ومن أبرزها مشروع «بيت مسك» الذي يعتبر بمثابة قرية جديدة في منطقة تعاني من ضغط عمراني كبير ودون وجود البنية التحتية الملائمة، وخصوصاً معالجة الصرف الصحي.
ويهدد قمم جبال لبنان العديد من المشاريع المقرر إنشاؤها على قمم الجبال اللبنانية. ولم يسمع أي نقد لتلك المشاريع المسماة سياحية، التي ستسبب تلويث خزانات المياه الجوفية بنحو خطير. فهذه المشاريع يمكن أن تحمل مخاطر مؤكدة على الثروات الطبيعية للجبال، وتهدد المياه الجوفية وتسبب تلويث الهواء والتربة.




إيكولوجيا «قمم الجبال»

تعود أهمية جبال لبنان إلى أمرين أساسيين: الأول أنها تشكل خزاناً أساسياً لمياه الينابيع، وتحتضن الرقعة الخضراء، وبالتالي إن مستقبل لبنان الاقتصادي هو في الحفاظ على هذه الجبال، وخصوصاً لجهة منع التوسع العمراني في المناطق التي يزيد ارتفاعها على 1500 متر. الأمر الثاني هو أن هذه الجبال تحتضن المجتمعات الريفية المهددة بالنزوح والهجرة إلى المناطق الحضرية، ما يسبب اختلالاً في توازن النظم الإيكولوجية.
تؤدي الجبال أدواراً مهمة في التأثير في المناخ المحلي والمناخ العالمي معاً، حيث تدفع الجبال الهواء إلى الأعلى، ما يزيد كمية الأمطار والثلوج على الجانب المواجه للرياح، ويخلق مناطق أكثر جفافاً أو ما يسمى «ظلال المطر» في الجانب الآخر. وهكذا فإنه لن يكون ثمة موسم للرياح الموسمية، مثلاً، لولا الجبال التي تعترض كتل الهواء. كذلك إن المياه التي تسقط على شكل أمطار في الجبال أو التي تخزن فيها على شكل ثلج أو جليد في الأنهار الجليدية ثم يطلقها الذوبان إلى الربيع والصيف، تعدّ مورداً حيوياً لما يزيد على نصف سكان العالم.
غير أن مناطق الجبال ذات تضاريس معقدة للغاية، ولذلك يتذبذب المناخ فيها بصورة كبيرة ضمن مسافات قصيرة، ومن المؤسف كذلك أنه لا توجد سجلات طويلة الأجل وموثوق بها للمناخ في الجبال، وخصوصاً في الارتفاعات الشاهقة. وسيؤدي تغير المناخ كذلك إلى تغيرات في الدورة الهيدرولوجية، ما يقلل كميات الثلوج ويزيد كميات الأمطار، بالإضافة إلى الكوارث الطبيعية والأكثر تكراراً مثل الحرائق والفيضانات والجفاف والعواصف. ويمكن هذه التغيرات أن تحدث في ظل زيادات طفيفة نسبياً في درجات الحرارة، ويمكن أن تكون ذات تأثيرات خطيرة على سبل المعيشة القائمة على الزراعة وعلى البنى التحتية والصحة.
ومن المعلوم أن السكان المقيمين في غالبية مناطق الجبال اعتادوا حقيقة أن مناخ هذه المناطق يتذبذب بصورة ملموسة من سنة إلى أخرى، ومن موسم إلى آخر، ومن يوم إلى آخر على ارتفاعات مختلفة، وحتى على المنحدرات ذات التوجه المختلف بالنسبة إلى الشمس والرياح. وقد أخذت نظم استخدام الأراضي التقليدية هذا التفاوت في الحسبان، وذلك من خلال زراعة النباتات التي تعشق الشمس في المنحدرات الأكثر دفئاً ونقل الماشية إلى المراعي الصيفية العالية عقب ذوبان الثلوج على سبيل المثال.
وتتأثر الجبال اللبنانية تلقائياً بظواهر تغيّر المناخ على المستوى العالمي، وخصوصاً لجهة ارتفاع درجة الحرارة وأثرها في الذوبان السريع للثلوج، الأمر الذي سينعكس على غزارة الينابيع، وبالتالي سيزيد من ندرة المياه خلال فصل الصيف.