في العشرين من أيار الفائت أعلنت المديرية العامة للأمن العام «حاجتها إلى تطويع مفتشين درجة ثانية متمرنين من الذكور والإناث ومأمورين متمرنين من الذكور فقط من بين المدنيين عن طريق المباراة».
إعلان واحد كان كافياً كي يستعد آلاف الشباب اللبنانيين لخوض غمار مباراة الأمن العام، من خلال التوجّه لتقديم طلب. لا يخفي عنصر الأمن العام الذي كان حاضرا في أيام تقديم الطلبات دهشته مما حصل، أعداد غفيرة ، زحمة خانقة وصفوف طويلة متراصة من المتقدمين، الذين يحملون أوراقهم الثبوتية والمستندات المطلوبة تحت الشمس الحارقة. عدد لا بأس به من الشبان انتظروا دورهم حتى انتهاء دوام العمل الرسمي، فعادوا أدراجهم دون الحصول على طلب التقديم. ويلفت محدّثنا إلى أن الباحة التي انتظر فيها مقّدمو الطلبات غصّت بالشبان من مختلف المناطق «البقاعي يحادث الشمالي والجنوبي يسأل الجبلي».
بعد انتهاء مهلة تقديم الطلبات ظهرت الأرقام الصادمة، فوظيفة المأمور المتمرّن التي تحتاج إلى شهادة متوسطة تقدم إليها 6261 شاباً، ووظيفة المفتش الثاني المتمرّن، التي تتطلب شهادة ثانوية ومعدل 12/20تقدم اليها 5334 شخصاً، ليبلغ مجموع المتقدمين 11595شخصاً.

لا ثقة بالقطاع الخاص الذي لا يؤمن الضمانات ويستسهل الطرد

أرقام تبدو للوهلة الأولى مفرحة لناحية التزام الشباب اللبناني مؤسسات الدولة وخدمتها، لكنها تحمل في طياتها مؤشرات على الواقع الاقتصادي الصعب الذي يعيشه الشباب اللبناني، ففقط 4.7% من المتقدمين سيحالفهم الحظ للنجاح في المباراة. ذلك أن حاجة الأمن العام تقتصر على 500 مفتش ومأمور.
يعلم أحمد أن حظوظه قليلة في النجاح، فالمتقدّمون كثر. الشاب الذي حلم يوما بأن يغدو ضابطا يصارع الآن للنجاح بوظيفة مأمور. ويعترف بأن وظيفة الأمن العام هي السبب الأخير لبقائه في لبنان، ورسوبه يعني حكما الهجرة إلى أفريقيا للعمل.
أما يوسف، المتخرج من كلية إدارة الأعمال، فلم يتردد عند سماعه إعلان الأمن العام في تجهيز أوراقه وتقديم طلبه. يذكر يوسف سؤال المؤهل المسؤول عن تسلّم الطلبات: «معك شهادة جامعة، شو جايبك لهون». لطالما كان طموح يوسف يفوق هذه الوظيفة، لكن ظروفه الاقتصادية الصعبة ويأسه من إيجاد عمل في مجاله، بعد محاولاته المتكررة دفعاه إلى تقديم طلبه. ليس يوسف حالة فريدة، فكثير من المتقدمين يحملون الشهادات الجامعية، درسوا وتخرّجوا لكنهم اصطدموا بواقع البطالة، فلجأوا إلى مباراة الأمن العام لعلها تغير من واقعهم الصعب.
تخبر كريستين كيف وجدت نفسها بعد عام من العمل في مؤسسة خاصة خارج أبوابها. تقول الشابة المتقدمة لوظيفة مفتش ثان «تعلّمت من تجربتي أن وظيفة الدولة مهما كان راتبها محدودا، تبقى أفضل من غيرها ، فالدولة تحمي موظفيها وتؤمن لهم استقرار وظيفيا لن يجدوه في القطاع الخاص».
«أن يموت في خدمة وطنه خير من موته جوعاً». هكذا يجيب والد أحد المتقدمين عن سبب تشجيعه لولده على الانتساب إلى السلك العسكري على الرغم من الأوضاع الأمنية الصعبة. ويضيف «يعلم أبناؤنا أن ارتداء اللباس العسكري ليس بالنزهة السهلة، فالوظيفة تعتريها خطورة ومصاعب جمة، ولكن أرشدني إلى وظيفة أخرى؟ هل يوجد؟». يسأل الوالد.
كلام تؤكده الباحثة في علم الاجتماع دانيا اللقيس، التي ترى أن الهاجس الاقتصادي عند اللبنانيين بات يتجاوز الهاجس الأمني، فالشباب ينظرون إلى الوظيفة على أنها وظيفة ثابتة، أما الأحداث الأمنية، فهي برأيهم أحداث مؤقتة زائلة، وهذا ما يشجعهم أكثر على الانتساب إلى المؤسسات الأمنية.
وتنقسم مباراة الأمن العام إلى مراحل عديدة، أولاها الاختبار الرياضي يليه الاختبار الطبي ثم المثول امام اللجنة والختام مع الاختبار الخطي. لكن الغالبية تشير بتهكم إلى أن الاختبار الحقيقي والجدي يتمثل في إقناع الجهات السياسية أو كبار الضباط في المساهمة في التوظيف، وما تلك الاختبارات المذكورة سوى «شكليات». وتشير اللقيس إلى أن كلمة «واسطة باتت مرافقة لأي مباراة تجريها الدولة»، وهذا برأيها دليل على «سوء إدارة وتنظيم المباريات السابقة، وفقدان ثقة المواطن باختبارات الدولة، ولهذا يلجأ الشباب إلى حجز واسطة، مخافة أن يستخدم غيرهم واسطة أخرى تطيحهم خارج المنافسة»، لكن مديرية الأمن العام تؤكد دوما صدقية اختباراتها، وقد سبق لها أن أصدرت بيانا حذرت فيه المتقدمين وذويهم من مغبة الوقوع في مصيدة بعض الأشخاص الذين يدعون القدرة على تأمين قبول طلباتهم لقاء مبالغ مالية محددة.
وكما في السنوات الأخيرة، لم يعد لافتاً أن يرتفع عدد الشابات بين مقدّمي الطلبات، مع وجود قرابة 3100 متقدمة. وقد فاق عددهن عدد الشباب المتقدمين لوظيفة مفتش ثان متمرن، وهو ما تراه اللقيس «دليلاً إضافياً على خروج المرأة من إطار الوظائف التقليدية التي كانت محصورة بها كالتعليم والتمريض». وتتابع اللقيس أن هذه الأرقام «مؤشر على تغير رأي المجتمع الرافض لدخول المرأة إلى عالم العسكر، فالأوضاع الاقتصادية الصعبة وضرورة مساعدة المرأة لزوجها وعائلتها ماديا، كلها أسباب ساهمت في تقبل المجتمع لهذا الرأي الجديد».
بدوره يرى الخبير الاقتصادي د. كامل كلاكش أن أرقام مباراة الأمن العام خير دليل على ضعف الاقتصاد اللبناني وندرة فرص العمل مع تسجيل تفوق الطلب على العرض. وبما أن السياسة لا تنفصل عن الاقتصاد، يشرح كلاكش أن «غياب الاستقرار السياسي والأمني يقلص من حجم الاستثمارات في القطاعات الإنتاجية، وهذا ما يؤدي إلى تراجع فرص العمل تلقائيا، وبالتالي لن يجد المتخرّجون أمامهم إلا وظائف الدولة». ويعيد كلاكش الإقبال الكبير على وظائف الدولة إلى «عدم ثقة المواطن اللبناني بالقطاع الخاص، الذي يستسهل طرد موظفيه ويعجز عن تأمين الضمانات اللازمة لهم على عكس القطاع العام».
بعد مدة ستظهر نتائج مباراة الأمن العام، لينجح عدد قليل، وتخيب آمال الكثيرين من المتقدمين، لكن الخيبة الأكبر تبقى لوطن يقف أبناؤه في طوابير وصفوف بحثاً عن عمل غالبا لن يجدوه.