نكبة إضافية تصيب القطاع الزراعي في لبنان. لا يكفيه أنه الحلقة الأضعف التي انكسر ظهرها بفعل الانماط الريعية وممارسات الزبائنية السياسية، حتى أصيب بـ«أزمة مياه» يختلف الخبراء على توصيفها بـ«أزمة شحّ» أو بـ«أزمة إدارة الموارد المائية». في كلتا الحالتين لبنان ليس جاهزاً لهذه الأزمة، التي تخلق نزاعات بين المزارعين على حصصهم من مياه الري. الأزمة متواصلة، فيما وتيرة النزاعات إلى ارتفاع.
تصفية القطاع

آخر فصل من فصول هذه القصّة بدأ مع خروج رئيس لجنة الأشغال النيابية، محمد قباني، على المزارعين بتصريح علني يقول فيه «يجب وقف زراعة الخضار التي تستهلك كميات كبرى من المياه، مع إعطاء تعويضات للمزارعين...». يومها شعر المزارعون بالاشمئزاز من طرح كهذا، يكمل ما كان يطرحه سابقاً أصحاب هذا «العقل»، الذي أراد تصفية قطاع الزراعة. رغبة التصفية لا تزال جامحة، فطرح قباني لا يمكن تفسيره إلا بانه دعوة إلى «دفن» الزراعة كليا. هذا العقل هو نفسه الذي «مانع» إنشاء السدود على مدى السنوات الماضية، وجعل مشاريع المياه صفقات لشركات محظية عند هذا الزعيم أو ذاك، تماماً كما يفعل اليوم عندما يقترح بعض مسوّقي هذا العقل شراء المياه من الخارج أو وقف الزراعة.
جزئياً، نجح هذا العقل في تكريس بضع معادلات عن «ارتفاع أسعار الزراعة المحليّة وسهولة استيراد الخضار بدلاً من إنتاجها». هذا الأمر يشبه إلى حدّ بعيد معادلات من نوع «سهولة التعليم وإنتاج الموارد البشرية وتصديرها بدلاً من إيجاد أسواق عمل محلية»... هي معادلات تحمل رغبات هذا العقل، الذي يستعيض عن معالجة أسباب ارتفاع كلفة الإنتاج، سواء كان زراعياً أو صناعياً وغيرهما من قطاعات تخلق فرص العمل، بتركيز الأسباب وتعميقها.

محمد قباني دعا
إلى وقف زراعة الخضار لأنها تستهلك المياه


الخبراء يتوقعون استمرار أزمة الشحّ في المياه الجوفية لأكثر من ثلاث سنوات متتالية
زراعياً، كانت بعض عوارض هذا المسار تظهر بين الفترة والأخرى، لجهة الأسعار وروزنامات التصدير والاستيراد للمزروعات، ومنافسة المنتجات الأجنبية للمحلية... لكن نتائج هذا العقل أصبحت جليّة اليوم مع ظهور أزمة المياه. فهذه الأزمة خلقت نزاعات بين المزارعين على مياه الريّ، ويرتقب أن تخلق المزيد من المشاكل لدى «المزارعين الذين يروون مزروعاتهم من المياه المشتركة»، يقول رئيس جمعية المزارعين اللبنانيين انطوان الحويك.
وما يعزّز كلام الحويك، أن توقعات الخبراء في شؤون المياه تشير إلى استمرار أزمة الشحّ في المياه الجوفية لأكثر من ثلاث سنوات متتالية، أي سيزداد شحّ المياه الجوفية مع تقدم الوقت. «المطرح ضيّق والحمار لبّاط» هذا المثل القديم الذي يردّده المزارعون يدلّ بوضوح على طبيعة المشاكل الناجمة عن سنوات الشحّ والجفاف، التي قد تكرّسها الأيام المقبلة في هذا الصيف، وفي الصيف المقبل أيضاً.

لا ثقة بالدولة

إذاً، بدلاً من أن تذهب الدولة في اتجاه التحوّط لهذا الشحّ، ذهبت في الاتجاه المعاكس تماماً. فالقطاع الزراعي يستهلك نحو 60% من المياه المتاحة، وبالتالي، فإن طرح تصفيته نهائيا في حالة الشحّ يبدو كما لو انه فعلا اضطراريا! هذا الوضع يستنفر الحويك، الذي يشير إلى أن المزارعين ليس لديهم ثقة بهذه الدولة، ولا بطروحات أزلامها الذين يريدون وقف الإنتاج الزراعي، ولا سيما أن «هناك الكثير من التعويضات المستحقة، التي لم تسدّد منذ سنوات عديدة».
وفي موازاة هذا الأمر، يبدو لبنان أعزل في مواجهة الأزمة، برغم لجان الطوارئ التي عملت على مدى أكثر من 9 أشهر، تمهيداً لهذه الفترة، وبرغم أن مشاريع السدود والبحيرات والبرك الجبلية مطروحة للتنفيذ منذ أكثر من 10 سنوات، إلا أنها لا تزال حبراً على ورق. وبحسب الخبير في شؤون المياه داوود رعد، «فإن لبنان ليس مجهّزاً لمواجهة سنوات الجفاف، والمشكلة لا تكون على صعيد المزارعين فقط، فالأزمة تمتد إلى إدارة شبكات توزيع مياه الري، وغياب العدادات لمراقبة الآبار الجوفية... ليس لدينا أي خطوات استباقية في هذا المجال، لا نفكر أيضاً في أي طريقة لتغذية المياه الجوفية بطرق اصطناعية».

خريطة المساحات المروية

كل هذه الإجراءات غائبة بصورة كاملة عن لبنان. أما في القطاع الزراعي، الذي يستهلك غالبية المياه المتاحة، فإن تأثيراته ستكون مختلفة بحسب حجم المساحات المروية، ومصدر الري. ووفق بيانات الإحصاء الزراعي الشامل لعام 2010، وهي أحدث بيانات إحصائية متوافرة عن القطاع الزراعي، فإن المساحات المروية في لبنان تبلغ 1.13 مليون دونم، أي نحو 49% من المساحات المزروعة في لبنان. ومن هذه الأراضي 65% مروي على نحو كامل، و35% بصورة جزئية. وكلما كبرت مساحة الأرض (الحيازة الزراعية)، زادت وتيرة الريّ فيها. كذلك، يظهر أن منطقتي بعلبك ــ الهرمل، والبقاعين الأوسط والغربي، تستحوذان على 28% و27% من مجمل المساحة المروية، وعكار على 14%، والجنوب (من دون النبطية) على 11%، أما منطقتا الشمال (من دون عكار) وجبل لبنان، فتستحوذان على 8% لكل منهما، والنبطية على 4%.
واللافت أن الزراعات الجنوبية، كالموز والليمون، تتطلب ريّاً كاملاً، على عكس ما هو حاصل بالنسبة إلى زراعة الحبوب المنتشرة في البقاع، التي تكتفي بري تكميلي، وتعتمد بصورة أساسية على الأمطار.
هذه الخريطة لا تعني أن أثر الشحّ سيتركّز في نوع معيّن من الزراعات، فالخبير رعد يؤكد أن «كل الزراعات تأثّرت، سواء البعليّة منها (الحبوب، مثل القمح والشعير... والزيتون وغيره) والمروية منها (الخضر والبطاطا والذرة العلفية وسواها)، والأشجار المثمرة أيضاً على الجبال».
غير أن تداعيات الشحّ على أنواع الزراعات، قد تتفاوت بحسب مصادر الريّ ودرجة الشحّ فيها، وقد تكون مرتبطة بالتوزّع الجغرافي لقنوات المياه. فعلى سبيل المثال، ظهرت بعض النزاعات في منطقة اليمونة مع محاولة بعض المزارعين الاحتفاظ بأسبقية حقوق الري.

المياه السطحية والجوفية

وتتضح الصورة أكثر مع بيانات المسح الزراعي، الذي يشير إلى أن نصف المساحات المروية تتزوّد بالمياه من الآبار الارتوازية، و39% منها تتزوّد بمياه الأنهر والينابيع، و11% من مصادر مختلفة، مثل الخزانات والسدود والبرك الجبلية. ويتوزّع هذا الهرم المائي على المناطق على النحو الآتي: 43% من المساحات في البقاع تتزوّد بمياه الأنهر والينابيع، و33% من الآبار الارتوازية. أما في محافظتي الشمال وعكار، فإن 37% من المساحات المروية تتزوّد بمياه الأنهر والينابيع، و12% من الآبار الارتوازية. وفي جبل لبنان هناك 11% من المساحات تتزوّد بالمياه من الانهر والينابيع، و3% من الآبار الارتوازية. جنوباً 7% تتزوّد من الأنهر والينابيع، و14% من الآبار الارتوازية.
لكن معالم الشحّ بدأت تظهر في أكثر من موقع. فقد تردّد بين المزارعين أن أكثر من نصف الآبار البقاعية شحّت إلى درجة الجفاف، وأن سدّ مجرى الحاصباني طاوله الجفاف أيضاً، ما يستدعي إغلاق أقنية الري للبساتين خلال فترة شهر كحدّ أقصى. أما خلافات اليمونة على استعمال مياه النبع قبل أن تصل إلى البركة الكبيرة، فقد تصبح ذات وتيرة أقوى...
هكذا يعني أن «الزراعات التي ستتأثر هي زراعة الخضار، مثل البندورة والخيار واللوبية والبطيخ والشمام وسواها، إضافة إلى زراعة الحشائش على اختلاف أنواعها... كلّها تروى من الآبار الجوفية، أو من المياه المشتركة...». وتضاف إلى هذه الزراعات، «كل المزروعات التي تروى من بحيرة القرعون، أي الزراعات على الساحل الجنوبي بين سهل القاسمية ورأس العين. فبحيرة القرعون التي يفترض أنها تتّسع لنحو 220 مليون متر مكعب من المياه، ليس فيها سوى ثلث الكمية. يجب وقف توليد المياه بواسطة مياه القرعون، ما دمنا قادرين على أن ننتج على المازوت» يقول رعد. كذلك، فإن المعروف أن قرى البقاع الغربي أيضاً تحصل على مياه الري من بحيرة القرعون، وتدفع بدلات مالية لقاء هذا الحق... أما القسم الأكبر من سهل عكار، فيُروى بواسطة الآبار الارتوازية، فيما يروى جزئياً من بعض الأنهر والينابيع الصغيرة.
اللافت أن الإدارات اللبنانية المسؤولة عن مصادر المياه تسمح بالتعدّي على الأملاك النهرية بأعمال باطون، إلى درجة أن بعض الأنهر تحوّلت عن مجاريها الطبيعية أو سدّت جزئياً...
«الشحّ لم يؤد يوماً إلى تصفية القطاع الزراعي في لبنان، حيث شهدنا أقصى مرحلة جفاف عام 1932 وتلتها سنة ثانية سيئة في عام 1933» يقول رعد. برغم ذلك، استمرت الزراعة في لبنان، واستمر المزارعون، لكن مرحلة ما بعد الحرب الأهلية شهدت رغبات التصفية وخطوات عملية لتنفيذها.