هذه المرّة كانت الهبّة مختلفة. فقد بدأت في شعفاط، ومن ثمّ تمدّدت إلى الضفّة والقدس والمثلّث، قبل أن يحاول الصهاينة وأدها في غزة. صحيح أنّ نسبة خطف المستوطنين وقتلهم إلى «حماس» قد جعلت منها الفاعل الأكبر في المشهد، إلا أنها لا تملك أن تزعم التأثير خارج المعطى الاجتماعي العريض الذي بدا منحازاً منذ البداية لفكرة «الانتفاض» والحراك الشعبي الواسع النطاق. مقاتلو الحركة إضافة إلى مقاتلي «الجهاد الإسلامي» وباقي الفصائل يقودون المعركة ببسالة الآن، ويستخدمون تكتيكات لا تساعد الكيان الصهيوني في تسهيل مهمّته، وهذا سبب إضافي لحيازتهم الشرعية الشعبية وتأكيد افتراقهم عن المستوى السياسي، وخصوصاً في حالة «حماس».
طبعاً، لا يقدر المنطق الانهزامي المبتذل على فهم هذه المعادلة، إذ انه يعتمد في مجمله على فكرة الثمن، ويقترح علينا التعامل مع هذه الحرب على أساس القياس العددي، فما دام الكيان لم يخسر إلا قتيلين اثنين في مقابل مئتي شهيد وأكثر من المدنيين الفلسطينيين إذن فهو يحتفظ بقدرة الردع، ولن يتأثّر كثيراً بإطالة أمد الحرب. والحال أنّ هذا المنطق بالذات هو الذي يعقّد فهمنا لطبيعة الصراع الحالي، وأشدّد هنا على كلمة الحالي، على اعتبار انّه يسقط الهبّة الشعبية التي سبقت الحرب من حسابه ويتعامل مع الواقع الذي أفرزها كما لو أنه كتلة جامدة، لا تتغيّر أو تتطوّر في سياق ما يجري حولها. دعونا نذكّر أصحابه بالسياق الذي جرت فيه حربا 2008 و2012. في كلتي الحربين لم يحدث أن تصاعدت الاحتجاجات في المناطق الخاضعة للسلطة الفلسطينية كما هي الحال الآن، ولم يحصل أيضاً أن انتفضت الكتلة الفلسطينية على هذا النحو في المناطق التي تخضع لسلطة الاحتلال (أراضي 48 تحديداً). يكفي أنّ المقاومة الآن تحظى بغطاء داخلي يندر أن تحظى به أيّ «حركة تحرّر» مسلّحة في العالم، وخصوصاً بعد المعاناة الشديدة من حالة الانقسام في السنوات الماضية. في الحربين السابقتين تعذّر وجود هذا الغطاء ليس فقط بسبب الانقسام، بل لأنّ الناس أيضاً كانوا قد يئسوا من فكرة الانتفاض وتكوين كتلة اجتماعية متماسكة تأخذ على عاتقها مهمّة الصدام الدائم والمستمرّ مع الاحتلال وأعوانه. في هذا السياق تصبح الأثمان التي يتذرّع بها المنطق الانهزامي المبتذل أقلّ بكثير مما نظنّ، ويغدو القياس على أساسها بلا أيّ قيمة تذكر. لا يحتاج الأمر هنا إلى شروحات أو تفسيرات معقّدة، فالكتلة الاجتماعية المتحالفة مع المقاومة الآن كبيرة بالفعل، وتحالفها هذه المرّة من النوع «العضوي» الذي يجعل من أيّ محاججة لا تستند إلى الإرادة الشعبية فعلاً مستحيلاً، ومن دون أيّ فائدة، هذا إذا افترضنا أنّ أصحاب هذا المنطق يريدون حقّاً خدمة الشعب الفلسطيني وتجنيبه الآلام والمآسي. الكتلة هنا تاريخية بكلّ ما في الكلمة من معنى، وإذا استمرّت الحرب طويلاً فستزداد صلابة وسيسقط رهان «إسرائيل» على تأليب قواعد «حماس» الشعبية عليها. أصلاً مشكلة الكيان الصهيوني الكبرى اليوم أنه لا يفهم طبيعة الالتفاف الحاصل حول المقاومة، وهذا أمر بديهي في ظلّ غربته عن المحيط الذي انتفض عن بكرة أبيه طيلة سنوات ثلاث. السلطة الصهيونية تعاني من إشكال حقيقي هنا، فهي بخلاف باقي السلطات في المنطقة لم تتعرّض إلى هزّات حقيقية، وبقي شعورها بالتهديد مرتبطاً بأفعال منظّمات تحوّلت هي الأخرى إلى سلطات أمر واقع، عاجزة وتابعة ومنقطعة عن محيطها المباشر.

مشكلة الكيان
الصهيوني الكبرى أنه
لا يفهم طبيعة الالتفاف الحاصل حول المقاومة


«حماس» نفسها لولا حفظها لخطّ الرجعة بعد التبعية المقيتة لقطر وتركيا ومصر أيّام الإخوان كانت ستلحق بالسلطة الفلسطينية، وتتحوّل إلى مجرّد هيكل سلطوي يمارس التهميش تجاه مواطنيه، ولا يشعر بأنه خارج معادلة القوّة والتأثير في محيطه الإقليمي. عادت الحركة الآن إلى «دورها الطبيعي» بفعل الكتلة الاجتماعية التي تمدّدت خارج قواعد «حماس» التقليدية، وباتت - أي الكتلة - بمثابة الحاضن الجديد للهبّة الشعبية العارمة. هذه الأخيرة تعسكرت بفضل المقاومة، ولم تعد فقط فعلاً احتجاجياً على استشهاد الشاب محمّد أبو خضير والتمثيل بجثّته. طبيعة الصراع مع الاحتلال هي التي فرضت العسكرة، إذ إنّ الانتفاضة السلمية لن تقدر مهما تمدّدت على مقارعة كيان يحتمي بالجيش والاستخبارات والمستعربين الأوباش وقطعان المستوطنين المسلّحين، وهو بالضبط ما ميّز هذا الطور من المواجهة، حيث وقعت الاشتباكات مع المستوطنين على نطاق أوسع من ذي قبل (القدس، الضفة، المثلّث... الخ)، وبقدر من الحدّة لم يكن معهوداً منذ توقيع اتفاقية أوسلو. الاشتباكات تمدّدت إلى معظم أنحاء فلسطين المحتلّة (باستثناء رام الله الخاضعة لسيطرة حديدية من أمن السلطة)، وبقيت على وتيرة معيّنة، أي في إطار المواجهات بين المتظاهرين والمستوطنين إلى أن تدخّل الجيش الصهيوني (وهو أصلاً كان ينظّم حملات المستوطنين ويديرها عن بعد) وبدأت حملة الاعتقالات الواسعة وانتهاك حرمات المنازل. في هذه المرحلة لم تعد الاحتجاجات قادرة على الصمود وحدها، وأضحت بحاجة إلى تدخّل منظّم يواكبها ويحميها ويدفع بها إلى ذروة جديدة من المواجهة. ولأنّ شبه الدولة المسخ القائم في رام الله غير قادر على توفير هذه الحماية، لا بل متعاون مع الاحتلال في عدم توفيرها تقدّمت القوّة المنظّمة الوحيدة القادرة على ملء هذا الفراغ، وإشعار الناس في شعفاط وباقي المناطق المستهدفة بأنّ لها ظهراً يحميهم لأداء المهمّة المنوطة «افتراضياً» بسواها. هذا الفائض من القوّة الذي تمتلكه المقاومة عزّز من شعور المنتفضين بغياب شبه الدولة، ووضع سلطة رام الله في مرمى غضبهم، فهي لم تتركهم فحسب لهمجية الاحتلال وعصابات المستوطنين، بل وقفت حائلاً أيضاً بينهم وبين أهلهم في رام الله وطول كرم و... الخ. على هذا الأساس أضحت المقاومة بالنسبة إليهم هي الشرعية الوحيدة القائمة، ولم تعد السلطة موجودة في حساباتهم، لا بل يمكن القول إنّ مستقبل «فتح» بمجمله أصبح في مهبّ الريح، ومهما حاولت السلطة في مصر أن تفعل لأجل تثبيت شرعية حليفتها الفلسطينية فلن تفلح في ظلّ الدينامية الداخلية المتصاعدة المطالبة بإنهاء هيمنتها على القرار، وكفّ يدها عن التحكّم بحياة الفلسطينيين في الداخل والخارج. بهذا المعنى فقط تتكامل جهود السلطة المصرية و«فتح» و«إسرائيل»، فجميعهم لا يقبضون على اللحظة المتكوّنة في الداخل، والمطالِبة بشرعيّة أخرى غير شرعيّة التفاوض والركون إلى مؤسّسات الأمم المتحدة و«المجتمع الدولي» البغيض.
عدم إدراك أطراف هذا «التحالف» حيثيات الكتلة الاجتماعية الآخذة بالتكوّن حول المقاومة يضعها جميعاً في موقع هامشي بالنسبة إلى الأحداث، ولا يساعدها في إنهاء المواجهة بشروطها المعتادة. هكذا، يصبح موت المبادرة المصرية وانعدام قدرتها على التأثير عاملاً داخلياً أكثر منه خارجياً، ويغدو كلام وزير الخارجية المصري سامح شكري عن دور المحور القطري ـ التركي ـ الاخواني في تعثّر المبادرة بلا أيّ قيمة، وخارج السياقات الممكنة للصراع. إذ حتّى لو عاودت «حماس» مزاولة انتهازيتها المعهودة - عبر ما يمثّله خالد مشعل تحديداً - وأرادت تعويم الدور القطري التركي على حساب غريمه المصري فستصطدم بممانعة داخلية كبيرة، وخصوصاً من الكتلة الاجتماعية التي قادت الاحتجاجات من خارج المعطى الحمساوي المباشر. وهؤلاء كثر بالمناسبة، وتأثيرهم المباشر في مجرى الصراع لا يقلّ عن تأثير أبطال المقاومة الذين يشتبكون مع العدو الآن على حدود القطاع، ويمنعونه من إتمام الطور البرّي من تدخّله العدواني. لا يجب الاستخفاف بما يفعله أولئك الثوريون الشجعان على الأرض، فلقد خبرنا قدرة نظرائهم في مصر على التأثير وكيف كانوا يجبرون السلطات المتعاقبة هناك على التراجع عن أيّ قرار يمسّ بمصالح الفقراء والمهمّشين وضحايا التعذيب و... الخ. وان كانوا قد تراجعوا اليوم «فلأسباب موضوعية» تتّصل بعسف السلطة وانضمام شرائح محافظة إلى قاعدتها الاجتماعية لا يغريها كثيراً الخطاب الثوري المطالب بالتغيير الجذري والقطيعة الكاملة مع النظام. والمدهش حالياً أنّ تراجعهم في مصر ترافق مع صعود ملحوظ لتأثيرهم في فلسطين المحتلة، حيث استطاعوا تشكيل قوّة ضغط أجبرت الاحتلال على التراجع عن مشروع «برافر» الذي يقوم على فكرة الترانسفير وترحيل سكان النّقب من أراضيهم، بغرض الاستيلاء عليها لاحقاً وضمّها إلى «أراضي الكيان الصهيوني». بعد الانتهاء من قضية برافر بقي تأثيرهم قائماً، وتزايدت قدرتهم على الحشد مع بروز قضية المعتقلين الإداريين المضربين عن الطعام، وحين انفجرت قضية شعفاط كانوا قد تحوّلوا بالفعل إلى قوّة ضغط على طرفي الكمّاشة التي تمسك بالشعب الفلسطيني، وتمنعه من «الانفجار»: سلطة عباس والاحتلال.
هذه القوّة مع امتداداتها الاجتماعية داخل الضفّة وغزة والقدس و... الخ تسهّل عمل المقاومة كثيراً ولا تتيح لها ظروف الاشتباك مع الرافضين لنهجها من لجان الأحياء وأعيان القرى ورؤساء البلديات وباقي المرتبطين بالسلطة والاحتلال. وقد حصلت بالفعل محاولات لوأد الاحتجاجات المؤيّدة للمقاومة من جانب هؤلاء، وجرى تجاوزها بفضل قدرة الشباب الغاضب والكتلة التي يمثّلها على تنظيم الصدام مع السلطة، سواء تمثّلت بقوى الأمن التابعة للسلطة الفلسطينية، أو بالمستعربين والأعيان المرتبطين بالاحتلال. لم يكن هذا الأمر متوافراً بالقدر نفسه في الحروب السابقة، حيث كانت المساحات المتاحة لتحرّك قوى الاحتجاج المؤيّدة للمقاومة ضئيلة للغاية، وما كان بالإمكان انتزاع أيّ هامش في ظل سيادة موازين قوى لا تعترف بالشعب أو بقدرته على التأثير. وهذا ناجم بشكل أساسي عن التحطيم الاجتماعي الذي بوشر العمل به عقب الإجهاز على الانتفاضة الثانية، وحصر المواجهة السياسية بين أطراف تعرف كيف تلعب مع بعضها لعبة المستعمِر الطيّب والمستعمَر المطيع. تحاول الكتلة الاجتماعية الوليدة الآن الانتهاء من هذا الإرث متّكلة على قوّة المقاومة، وعلى قدرتها على الحلول موقّتاً محلّ أجهزة السلطة التي تقبع الآن في غرفة الإنعاش. يطرح هذا الأمر سؤال السياسة بقوّة، فالحرب لن تبقى إلى الأبد، وحالما تنتهي ستحاول القوى التي تهمّشت بفعل دينامية الكتلة المتشكّلة حول المقاومة معاودة احتلال المساحات التي حُرّرت أثناء الحرب وما سبقها من احتجاجات ومواجهات في شعفاط والخليل وباب العمود و... إلخ. السؤال هنا حول قدرة هذه الكتلة على مزاولة السياسة خارج إطار الفعل الاحتجاجي الصرف، فإذا كانت قادرة على تقديم أطر بديلة من هياكل السلطة يصبح بإمكاننا الكلام عن مشروع سياسي مسنود «بكتلة تاريخية» متحقّقة، وإذا لم تكن تفعل فعلينا حينها انتظار خطواتها المقبلة بعد صدّ العدوان والانتهاء من تفكيك بنى السلطة. يبقى الموقف من «حماس»، وهو معضلة بكلّ المقاييس، فالحركة الآن تقود فعلاً تاريخياً، وتعيد إحياء مشروع المقاومة الذي «اندثر بالكامل» عقب امتثالها لشروط واملاءات الحلف التركي ـ
القطري (إلى جانب مصر أيّام مرسي)، وهي إذ تفعل تراهن على تمدّدها خارج أطرها المعروفة، وهو ما حصل بالفعل في الأيام القليلة الماضية. في هذا الخصوص أقول: التمدد سيستمرّ ويتصاعد طالما بقيت تعوّل على الكتلة الجديدة، ولكن بمجرّد اصطدامها بهذه الأخيرة ربطاً «بالتناقضات» التي يحيّدها العدوان الصهيوني حالياً فستعود حكماً إلى حجمها السابق، وسيصبح التعويل على أيّ شراكة معها من موقع الاعتراض على أداء السلطة وتجريمها أصعب من ذي قبل. طبعاً، هذا التقدير معلّق اليوم، فحماس كما ذكرت تقود المقاومة وتصنع ملحمة شبيهة بملحمة حزب الله في عدوان 2006 (مجدّداً، لا يجب أن يمنعنا الموقف من تدخّل الحزب في سوريا من رصد الواقع المتغيّر، وبالتالي الاعتراف بفضله العظيم على حركات المقاومة الأخرى في المنطقة)، وعليه يصبح الاصطفاف الكامل وغير المشروط معها أثناء العدوان أضعف الإيمان.
* كاتب سوري