يقرّر الجيش السوري، مكان المعارك وحجمها ونتائجها؛ يحرز تقدما سلساً في حلب، العاصمة الاقتصادية وموئل القوس السياسي للدولة الوطنية، بينما «جبهة النصرة» وبقايا «المعارضة» المسلحة، تنهار بين كمّاشة القوات السورية وميليشيات «داعش». قريباً، سيكون المشهد «صافياً»: دمشق في مواجهة «الخلافة»، ليس فقط في الجزيرة الفراتية، بل وعبر الحدود السورية ــــ العراقية.
الرئيس بشار الأسد، بدأ التحضير فعلا للمرحلة التالية؛ سلاح الجوّ بدأ معركة منظمة مع «الخلافة»، ووفد التنسيق العسكري السوري يحطّ في بغداد؛ هنا لا يوجد الأميركيون وحدهم، الإيرانيون والسوريون أكثر حضوراً، ومن ورائهم روسيا... وعرضها واضح لجهة فتح مستودعات أسلحتها فوراً للجيش العراقي.
التمرد الداخلي المسلح يوشك على التلاشي في سوريا؛ كانت الانتخابات الرئاسية لحظة الحسم فيها. ما سيبقى عصابات «الخلافة» في شمالي شرقي البلاد. لم يعد هناك أدنى التباس في طبيعة الصراع إذاً؛ الخيار المحلي والإقليمي والدولي سيكون الآن بين الرئيس بشار الأسد والخليفة أبو بكر البغدادي!
لا تزال واشنطن تحاول الهروب من هذا الخيار؛ تعترف بأن انتصار «المعتدلين» على الرئيس الأسد مستحيل، ولكنها تخصص نصف مليار دولار لدعم جهود ثالثة ليس لإسقاط النظام السوري ــــ فهذا مشروع أصبح من الماضي ــــ ولكن لتجهيز قوات قبلية في الجزيرة الفراتية تتجه نحو الانفصال بنفطها وثرواتها أو حتى الانضمام للكيان العربي السني العراقي، بما يجعله كياناً قابلاً للحياة، قبلياً، معتدلاً وموالياً لواشنطن؛ بالنسبة للشق السوري من المشروع الأميركي الجديد، سينتهي إلى الارتطام بجدار الدولة الوطنية السورية؛ لن ينتج عنه سوى المزيد من الدمار والإرهاب.
ستكشف الوثائق السرية، لاحقاً وليس بعيداً، أن مشروع تكرار الوهابية (التحالف القبلي ــــ التكفيري) في بادية الشام، ذلك المشروع المرتبط ببيئة حركته ــــ ومن هنا خطورته ــــ لم يكن من بنات أفكار «داعش»، بل كان تصوراً إستشراقياً موضوعاً على المائدة الامبريالية السعودية ــــ التركية، إنما بصياغة سياسية تستخدم الإرهابيين مؤقتاً ولا تضع المشروع تحت قيادتهم؛ هكذا، دفعت استخبارات الحلف الأسود الثلاثي، «داعش» نحو حتفها، بإعلان «الخلافة»، ما يسهّل فصلها عن بيئتها والتحضير لضربها، ولكن بعد استخدامها لابتزاز الايرانيين والسوريين، سياسياً وأمنياً، والعودة إلى العراق وتهيئة الظروف لتقسيمه، وسحق المعارضة الفلسطينية ــــ الأردنية لخطة تصفية القضية، وفرض مشروع وزير الخارجية الأميركي، جون كيري، للحل النهائي.
من سوء حظ الحلف الثلاثي الأسود (واشنطن، أنقرة، الرياض) أن «الخلافة» هيمنت على سواها من التنظيمات والقبائل في سوريا والعراق. وهي تتجذّر. ومع كل يوم يصرفه الحلف في المناورة والابتزاز يسرّع في فرز الأوراق، ويقود إلى مشهد دمشق ــــ بغداد في مواجهة الإرهاب. وفي مشهد صاف كهذا، تستعيد موسكو ــــ طهران، موقع المفاوض القويّ في كل الملفات؛ من سوريا إلى العراق إلى النووي الإيراني إلى أوكرانيا. وليس بلا معنى أن مسؤولاً روسياً رفيعاً توقع «أن المرحلة النشطة للنزاع في جنوب شرق أوكرانيا ستنتهي خلال بضعة أسابيع»؛ بالطبع، فأوروبا تضغط اليوم للتهرب من الحرب الأميركية بالوكالة على حدود روسيا، وتفضّل حلاً سلمياً يكفل مصالحها الاقتصادية، ويؤمن لها امدادات الغاز قبل الشتاء.
في العراق، نوري المالكي يتمسك بالحكم بشجاعة، ويتجه نحو المواجهة؛ من الواضح أنه يستند إلى قرار استراتيجي اتخذه المحور؛ فهل يستعيد أنفاسه الآن، ويكفّ عن الاستنجاد بالأميركيين، يحجّم وجودهم؟ يطردهم؟ هذا المسار هو، وحده، الذي يكفل له البقاء ليس فحسب في مواجهة الخصوم في المناطق الشمالية الغربية، بل، وأيضاً، لجم «الحلفاء» في بغداد والجنوب؛ يمكنه أن يعتمد على المحور، ويقاتل، ويحسم، على أن يستغل الشقاق الحاصل في صفوف التمرد المسلح بسبب اعلان «الخلافة»، نحو مصالحة وطنية مع القوى العربية السنية، على أساس وحدة العراقيين العرب في مواجهة الإرهاب والتوسع الكردي.
تقسيم العراق هو قلب المشروع الأميركي الذي يحقق لواشنطن عدة أهداف معاً: (1) منع إعادة تشكل العراق كدولة وطنية وقوة إقليمية تهدد السعودية، (2) كسر التواصل البري بين ايران وسوريا، وتهديد البلدين بكيان مجاور معاد، (3) إنشاء دولة كردستان الموسعة بضم كركوك ونصف الموصل، مصدراً كبيراً للنفط، وموطئاً موثوقاً للوجود الأميركي، وحليفاً إقليمياً ثابتاً لإسرائيل، ولعضو الناتو، تركيا التي يمكنها تصفية القضية الكردية خاصّتها في دولة كردستان العراق، الدولة القومية الشرعية الوحيدة للأمة الكردية في المنطقة!
في الأردن ما يشبه الانقلاب على إسرائيل؛ أصبح من المحسوم أن القوى الوطنية في البلاد يمكنها التحشيد لإسقاط أي حل للقضية الفلسطينية لا يكفل الدولة والحدود وحق العودة، في حين تتجمع نذر الانتفاضة الثالثة لتعيد رسم خارطة الصراع في المنطقة.
بضعة أسابيع في أوكرانيا... لكن ربما بضعة شهور في بلادنا.