53 سنة مرت على رحيل عملاق الرواية الأميركي إرنست همنغواي (21/7/1899 ـــ 2/7/1961). ورغم مرور أكثر من نصف قرن، على الواقعة المفجعة التي شهدت انتحاره ببندقية صيد في الثاني من تموز 1961، الا أنّه ما زال حاضراً في كل المدن التي عاش فيها. في باريس التي شهدت البدايات الأدبية لصاحب «الشمس تشرق أيضاً» (1926)، أفرجت «غاليمار» قبل سنتين عن النسخة الأصلية الكاملة لآخر أعماله «باريس وليمة متنقلة».
وكانت الدار المرموقة أول من أصدرت (بالفرنسية) عام 1964، نسخة مختصرة من هذا المخطوط غير المكتمل الذي تناول جانباً من سيرة الملتحي الشهير، أيام كان مراسلاً صحافياً شاباً في باريس بين الحربين العالميتين. وفي كوبا، التي أقام فيها همنغواي على مدى 20 عاماً، حيث تدور أحداث رائعته «الشيخ والبحر» (1952)، فإنّ الجزيرة المحاصرة احتفت دوماً بصاحب «لمن تُقرع الأجراس؟» (1940) كواحد من أبنائها. وكان الناقد آرون إدوارد هوتشنر (1920)، أشهر كُتّاب سيرة همنغواي، وأحد أقرب أصدقائه خلال العشرية الأخيرة من حياته، كشف بأنّ الـ «إف ـ بي ـ آي» لم يكتف بالتجسس على صاحب «موت في الظهيرة» (1932)، طيلة ربع قرن، بل استغل ظروف مرضه لملاحقته والتحرش به حتى داخل «مصحّة مايو» التي كان يعالج فيها من الاكتئاب، قبل وفاته. وإذا بالأوساط الأدبية والصحافية في موطن العم سام تطرح السؤال بلا مواربة: هل قام الـ «إف ـ بي ـ آي» بـ «اغتيال» همنغواي من خلال استغلال ظروف مرضه للضغط عليه ودفعه عمداً إلى الانتحار؟.
لم يكن صاحب «الفردوس المفقود» (1949) قد تجاوز الـ 62، حين انتحر بطلقة من بندقية صيده. لكن متاعب الشيخوخة داهمته باكراً. كشف آرون إدوارد هوتشنر، لاحقاً أنّ الأعراض الجانبية للسكري أصابته بضعف البصر والعجز الجنسي. لكن ذلك لا يفسر لوحده، كما ساد الاعتقاد مطولاً وقوعه في شِراك الإدمان على الكحول. كانت المعاناة الأقسى لهمنغواي ـ يضيف الناقد ـ إحساسه بنضوب مصادر الإلهام، بعدما أقعده المرض. تعوّد أن ينحت على الدوام إبداعاته الأدبية من تجاربه المُعاشة. وتلك سمة أساسية في أدبه خوّلته أن يكون شاهداً على عصره بامتياز، فضلاً عن كونه أحد الكُتّاب الأكثر تجديداً وتأثيراً في الساحة الأدبية العالمية خلال القرن العشرين.
واكبت أعماله صراعات النصف
الأول من القرن العشرين والحرب
الأهلية الإسبانية

من «الشمس تشرق أيضاً» إلى «خلف النهر وتحت الاشجار» (1950)، مروراً بـ «وداعاً للسلاح» (1929) و«لمن تقرع الأجراس؟»، عكس أدب همنغواي بامتياز المعاناة الإنسانية القاسية التي واكبت صراعات النصف الأول من القرن العشرين خلال الحربين العالميتين والحرب الأهلية الإسبانية. لم يكتف الملتحي الشهير بالكتابة عن تلك الحروب من خلفية التخييل. أراد لأدبه أن يكون مرادفاً للتجربة المعاشة، فارتمى في أتون الصراعات العالمية، كمتطوع في مجال الغوث الإنساني ثم كمقاتل ومراسل صحافي.
غداة دخول الولايات المتحدة في الحرب العالمية الأولى، في نيسان (أبريل) 1917، تقدّم للجندية، لكنه رُفض بسبب ضعف نظر عينه اليسرى. إلا أنّ ذلك لم يثنه عن المشاركة في الحرب. تطوّع كسائق سيارة إسعاف في صفوف الصليب الأحمر. وفي تموز (يوليو) 1918، تعرّض لإصابة بليغة على الجبهة الإيطالية أقعدته ثلاثة أشهر في أحد مستشفيات ميلانو. هناك أُغرم بالممرضة أنياس فون كوروفكسي التي استوحى منها لاحقاً شخصية كاثرين باركلي في «وداعاً للسلاح».
في نهاية الحرب، استقر في باريس كمراسل لجريدة «تورونتو ستار». وفي آذار (مارس) 1921 انتدبته الصحيفة مراسلاً حربياً خلال الصراع التركي ـ اليوناني في الأناضول. في السنة التالية، كلّفته بإنجاز سلسلة ريبورتاجات في اسبانيا عن عوالم مصارعة الثيران. ومن تلك التجربة استوحى رائعته «موت في الظهيرة»، التي مثّلت نقطة مفصلية في مساره الأدبي. كتب آنذاك ما يشبه نبوءة مبكرة بنهايته الفاجعة: «أردتُ أن أجرِّب مهنة الكتابة، من خلال التركيز في الأشياء البسيطة. وإذا بي اكتشف بأنّ لا شيء أكثر بساطة من الموت العنيف»!
بعد سنة على اندلاع الحرب الأهلية الاسبانية عام 1936، التحق همنغواي بالجبهة كمراسل صحافي. لكنه لم يلبث أن انخرط في الحرب كمقاتل ضمن «الألوية الأممية» إلى جانب الجمهوريين. وكانت لتلك التجربة القاسية تأثيرات عميقة في فكره وأدبه. منها استوحى رائعته «لمن تقرع الأجراس؟» التي كرّست شهرته ضمن عمالقة الأدب العالمي.
تركت قساوة الحرب بصمات عميقة في كل أعمال همنغواي التالية، سواء على صعيد المضامين الإنسانية القوية أو لجهة أسلوب الكتابة المينيمالي. شكّلت الشجاعة وقوة الإرادة التيمة المركزية في كل أعماله اللاحقة، من «أن تملك وألاّ تملك» إلى «الشيخ والبحر»، مروراً بـ «خلف النهر وتحت الأشجار»، وبمجموعات قصصية عدة («عشرة هنود» و«الفردوس المفقود» و«مغامرات نيك أدامز»...).
لكن الشخصيات الأدبية التي نحتها صاحب «ثلوج كليمنجارو» من مشاهداته وتجاربه وأسفاره المتعددة لم تكن تتسم بالبطولة في مفهومها التقليدي القائم على التفوّق. هي شخوص عادية لا تتكشف سماتها الاستثنائية إلا حين تواجه تجارب قاسية تكتسب في خضم تحوّلات لم تكن هي نفسها لتتوقعها أو تحلم بها. في منظور همنغواي، لا يولد الإنسان بطلاً أو شجاعاً، بل الشجاعة والبطولة سمات إنسانية في متناول الجميع، لكنّها لا تبرز إلا لدى مَن يكتوون بأقسى تجارب الحياة ومحنها.
لم يكن التحوّل في أدب همنغواي، بعد «لمن تُقرع الأجراس؟» أقل جذرية على صعيد الأسلوبية. خرج الملتحي الشهير من تجربة الحرب الأهلية الاسبانية بقناعة راسخة بأنّه كي ترقى الكتابة الأدبية إلى صدقية اللحظة الإنسانية المعاشة، يجب أن تتخلص من الزخارف والزوائد البلاغية. ما قاده إلى تطوير أسلوب أدبي مجدّد أقرب إلى الكتابة الصحافية في طابعها التيليغرافي الذي يتوخى البساطة والوضوح والاقتضاب. لكن هذا المنحى المينمالي اصطدم بإشكالية جوهرية: تفادي تحوّل البساطة إلى مرادف للتسطيح والمباشرة. هنا تفتّقت عبقرية همنغواي الأدبية عن تقنية مبتكرة تمثلت في أسلوب المواربة في التعبير. بدل المرافعة الخطابية للدفاع عن قيمة أو مفهوم معين، كان صاحب «الحقيقة في ضوء الفجر» (رواية غير مكتملة أصدرها ابنه باتريك عام 1999) يلجأ إلى الالتفاف والمراوغة، معتبراً أنّ تأكيد الحقائق أو الوقائع بشكل مباشر يكون دوماً أقل إبهاراً وتأثيراً في القارئ من إبراز نقائض تلك الوقائع ودحضها، لتتكشف الأمور تدريجاً (للقارئ) ضمن رؤية شاملة تنصهر فيها المتضادات، كما في الحياة الفعلية!
كان يحلو لهمنغواي أن يقارن هذا الأسلوب الموارب في التعبير الأدبي بالأركيولوجيا، حيث لا يمكن لباحث الآثار أن يزيل الأتربة بالفأس والمطرقة، مثل عامل البناء، بل يتوجب عليه أن يحمل فرشاة التنظيف الصغيرة، في مسعى دؤوب وبطيء، كي يزيل الشوائب المتراكمة حول الكنوز الأثرية، فيكشف تدريجاً عن سحر تلك الكنوز وجمالها الدفين!.