حين انتقلت سيمون فتال (1942) بعد تجربة مديدة في الرسم التجريدي إلى النحت، كان متوقعاً أن تذهب إلى منطقة نحتية غير بعيدة عن تجريداتها الهندسية والغنائية أو متوازية بطريقة ما معها، وأن تكون ثمة صلات واضحة أو خفية بين ممارساتها الحديثة والمعاصرة في الرسم وما يُنتظر من ممارسات (حديثة ومعاصرة أيضاً) في النحت.
ولكن ذلك لم يحدث بهذه البداهة المتوقعة، فقد أعادها النحت إلى التراث القديم لفنون المنطقة التي ولدت وعاشت فيها. وربما ساهم الطين الصلصالي الذي اشتغلت به على شقّ طريق عودتها هذا إلى ما كان فنانو بلاد الرافدين وسوريا القديمة قد فعلوه في عصور ما قبل التاريخ. الرسامة والنحاتة والكاتبة التي ولدت في دمشق، وعاشت في بيروت، ودرست الفلسفة في باريس، قبل أن تضطرها الحرب الأهلية إلى الهجرة إلى أميركا والإقامة في سان فرانسيسكو، لا تعود إلى طين أسلافها المجهولين هؤلاء لكي تقلدهم أو تستنسخ طبعاتٍ جديدة من أعمالهم التي تملأ المتاحف اليوم، بل هناك نوع من الرغبة في البدء من هناك، من الدرجة صفر في النحت تقريباً إذا استثمرنا عنوان كتيّب شهير لرولان بارت، والتلذذ باكتشاف بدائية النحت وصناعة الأشكال من ذاك الطين الأزلي الذي هو بالنسبة إليها طين آدم وحواء أيضاً. معرضها «طين وسيراميك» الذي افتُتح أول من أمس في غاليري «تانيت»، وضمّ عدداً من منحوتاتها المنجزة في السنوات الأخيرة، هو عودة لها ولزوار المعرض إلى تأمل تلك الاحتمالات الموجودة في الصلصال كمادة أولية مجلوبة من الماضي، وعليها أن تؤدي الأدوار والوظائف التي كانت تُنجزها في الماضي، ولكن بيدين معاصرتين ورؤية معاصرة. انطباعٌ مثل هذا يهيمن بسرعة على جو المعرض، ويشعر الزائر بأنه يتجول في قاعة مخصصة للفن السومري أو الآرامي أو الآشوري داخل متحف ما. هناك فعلاً روحية مُتحفية في أغلب الأعمال المعروضة، بينما تختلط هذه الروح مع انطباعات أحدث في أعمال قليلة أخرى.
يبدأ ذلك من منحوتة «البيت» التي تبدو مثل بيت بدائي بناه الإنسان السوري أو الرافديني القديم، وقد سُند إليه سلمٌ بدائيٌ أيضاً. التكوين كله مرسلٌ إلينا من حضارة قديمة. اللون الطيني والسطوح المحنيّة وغير المتّسقة معمارياً تعزز المذاق الأركيولوجي لما نراه. وهو ما يتكرر في منحوتات مثل «أسد» التي نفكر أننا رأيناها على مدخل أحد المتاحف في دمشق أو حلب أو بغداد، حيث تكتفي الفنانة بإنجاز جسم الأسد ولبدته وذيله، وتضعه على قاعدة لا تُظهر قوائمه الأربع.

لا تعكس الأعمال شغفاً
ساذجاً بالتاريخ، بل هي بحثٌ عن الأبدية والمطلق


الحضور الأركيولوجي لا يعكس شغفاً ساذجاً بالتاريخ والماضي طبعاً، بل هو بحثٌ عن الأبدية، ورغبة بالإقامة في المطلق. هناك حيث يتسنّى للتفاصيل واللحظات الحياتية الراهنة أن تنضم إلى سيرورة خلقٍ غير قابلة للنفاد. سيمون فتال التي سبق لها أن كتبت عن ابن عربي لا تبدو غريبة عن خلاصاتٍ مثل هذه، بل إن تجريداتها في الرسم حملت شيئاً من التصوف والتأملات الكونية التي أمكن اختزالها في لونين أو ثلاثة كانت تكفل للوحاتها أن تكون محاكاةً للطبيعة وأعمال الزمن، وأن تكون إضافةً مقترحة عليها أيضاً. الحسّ التاريخي يمتزج بأفكار وموضوعات حديثة كما في عملها الضخم الذي أنجزته وفاءً لذكرى صديق راحل كما تقول، ويتألف من سبع كراتٍ ضخمة نُقشت عليها أسماء الله الحسنى، وكما في منحوتة «ملكة العالم» التي نرى فيها شكلاً بشرياً مثبتاً على مجسّم للكرة الأرضية. المزيج المهجّن بين عناصر قديمة وأفكار راهنة، يصبح أكثر حداثة ومعاصرةً في سلسلة من منحوتات تمثل محاربين، وتعيد علاقة الفنانة مع الحرب إلى الواجهة، ولكنها تمتدح تلك الحرب مقارنة بما يحصل حالياً من حروب ودمار. رغم ذلك، تبدو المنحوتات مثل أشكال طوطمية قديمة أكثر من كونها شكلاً بشرياً كاملاً.
التجريد الذي يجد له فجواتٍ في البنية الصلصالية، يتحول إلى تجريد كامل في أعمال مثل «بُنية»، و«بوابة 1» و«بوابة 2»، حيث يصبح هدف القطع المشاركة في تأليف العمل أن تصنع إنشاءات وهياكل معمارية خالية تقريباً من إحالات واضحة ومباشرة. تحتاج في مثل هذه الأعمال إلى تخيّل فكرة أن تكون بداية البوابة موعودة بقطع تسدّها وتعوق دخولها والمرور فيها، وهو ما نراه مترجماً بشكل أوضح في منحوتة «ممر» التي وُضعت على جانبيه حرابٌ معدنية تبدو دخيلة على الألوان الحمراء المختلفة التدرجات التي يصنعها حرق الصلصال. التجريد يحظى بوظيفة دلالية هنا، ولكن ذلك لا يغير كثيراً في أن المعرض كله صالحٌ لأن يكون حصيلة تنقيب أثري. الصلصال والسيراميك باتا أكثر معاصرة مع ازدهار العمل عليهما في فنون الشرق الأقصى، كما تشير الشاعرة والرسامة إيتل عدنان في تقديمها للمعرض. عدنان التي تمتلك تجربة مماثلة لتجربة فتال في التجريد، تعرض بذكاء وفرادة ما تراه في منحوتات صديقتها المقرّبة، وخصوصاً حين تركز على رحلة السيراميك والصلصال أثناء إنضاجه على النار، والنتائج المدهشة التي يمكن أن تنتج من ذلك، والتي تسميها عدنان «فن النار»، بينما يراها الشاعر التونسي خالد النجار «هبوب الروح في الطين»، في كلمته عن المعرض.



«طين وسيراميك»: حتى 4 أيلول (سبتمبر) _ «غاليري تانيت» (بيروت _ مار مخايل). للاستعلام: 76/557662