خطير جداً أسلوب التمويه وحرف الأنظار المعتمد بواسطة الهجوم على ميشال عون. ففي الظاهر يحاول المموهون إعلان الاستنفار العام وشنّ الحرب على شخص، كل جريمته أنه قال ببساطة وعفوية إنه يتعهد فعل المستحيل من أجل منع الدم في حال انتخابه رئيساً للجمهورية. أما في الباطن، فالمقصود من الحرب الإعلامية القائمة، التغطية على مشروع خبيث لتسييل نهر من الدم، من أجل منع عون من الوصول إلى بعبدا.
في الوقائع أولاً، بدأت المعركة فور رحيل ميشال سليمان وإثر سقوط مشروع التمديد المستميت حتى اللحظات الأخيرة من آخر يوم من الولاية. في الأيام الأولى التالية لمرحلة الشغور، بدأت الصيغة الأولى من الحرب على عون. واتخذت يومها شكل استنفار إعلامي من قبل الحرصاء والغيارى على مقام الرئاسة وموقع المسيحيين في النظام. مباشرة بعد انتقال بعبدا من الفجور إلى الشغور، حشدت كل الأبواق: إعلاميون وسياسيون وروحيون وأمنيون وعملاء أجهزة مثقفون ومخبرون صالوناتيون... كلهم استنفروا تحت عبارة خشبية واحدة: المسيحيون في خطر. يجب انتخاب رئيس الآن وكيفما كان، وإلا فالكارثة!
بعد أسبوعين بدا أن الحملة لم تجدِ. فصار الانتقال إلى الخطة «ب». صيغة التهويل الأمني. منذ أيام افتتحت المرحلة الثانية من الحرب الملتوية على عون. إنذارات بالجملة. أخبار انفجارات وإرهاب وتهديدات وشبكات وتفجيرات وتفخيخات وأنفاق وكل أنواع الرعب الجماهيري... وكالعادة المجندون للحملة من عدة شغل الأجهزة المختلفة. حتى إنه خرج كلام عن «موقوفين». تذكروا جيداً هذه الواقعة، وتابعوها، بعد أسابيع، بعد أشهر بعد سنة... هل سيظهر موقوفون؟ أم يطلق سراحهم من دون إعلان ولا إعلام بحجة أنهم كانوا مجرد مشتبه فيهم؟ تماماً مثل موقوفي كل موجات الشائعات الماضية، من تفجير عين علق إلى شبكات عملاء وإنجازات وهمية وبطولات إعلامية. ففي القضاء من يجزم بأن معظم ذلك كان مفبركاً، مفتعلاً، ملفقاً أو مضخماً مبالغاً فيه في أحسن الأحوال. حتى إن في القضاء من يتحدى أصحاب تلك البطولات الفارغة، أن يظهر ملفاً واحداً من تلك، انتهى إلى أحكام قضائية جدية. يقولون إن أحكاماً مخففة صدرت، لأن القضاة لم يقتنعوا بما قدم لهم من جهة. ولم يتمكنوا من التبرئة من جهة أخرى، بعدما أسبغت على تلك الإنجازات صفة القداسة المفروضة فرضاً، بدماء الاغتيالات المعروفة!!
في كل حال، وبالعودة إلى مسرح اليوم، بدا سريعاً أيضاً أن الخطة «ب»، خطة موجة الشائعات ومجرد التهويل بالكلام، لن تكون كافية. مطلوب حدث أكبر، دم أغزر، زلزال أكثر زعزعة لتبرير الانقلاب الرئاسي الجديد. أصلاً، الفكرة ليست جديدة. السيناريو مكرر، مقتبس ببلاهة من تجارب عدة سابقة. آخرها كان الأكثر مأسوية ووحشية، سنة 2007. حين أطل عام الاستحقاق الرئاسي، وميشال عون يمثل ثلثي المسيحيين، ومتفاهم مع حزب الله ومتقدم بأشواط على كل منافسيه. يومها كانت خلايا شاكر العبسي نائمة على حرير في شارع المئتين في طرابلس. وكانت هناك منذ مدة طويلة، وبرعاية أجهزة أمنية معروفة. وتسجيلات هاتف بلال دقماق دليل قاطع يفضح كل المتورطين. كاد عام 2007 ينتصف بطيئاً. بدأنا نقترب من الاستحقاق الرئاسي من دون حصول ما يعرقل تقدم ميشال عون. فشرقطت الفكرة لدى أحدهم. نفتعل معركة في طرابلس. ينفجر البلد. يصير البحث الرئاسي داخلياً وإقليمياً ودولياً، جارياً على قاعدة أولويات أخرى وأجندات مختلفة. فنحرق ورقة ميشال عون. وهكذا صار. ليل 21 أيار من ذلك العام، اندلعت المواجهة في شارع المئتين. ذبح الجيش ذبحاً. سقط الأبطال جبلاً جبلاً. بعدها هرب شاكر العبسي، أو الأصح تم تهريبه. بعدما جاؤوا بمن يشهد زوراً على جثته المزيفة. ثم جرت تصفية معظم المتورطين الكبار. حتى من أُعلن توقيفه، سقط في النسيان. من يذكر توقيف أبو سليم طه أو آخرين؟ وحده فرانسوا الحاج كانوا يخشون صلابته ونزاهته. يعرفون أنه لا يسكت. ويدركون أنهم لن يسكتوه إلا اغتيالاً. فبعدما ارتاحوا إلى اختيار شاكر العبسي لرئيسنا، رحل البطل من الشمال إلى الجنوب، في ذلك اليوم الذي بكت فيه السماء...
من المسؤول عن كل ذلك؟ هل هو المستفيد المباشر؟ أم أنه كان جزءاً من لعبة جرى التلاعب به فيها؟ سيظل واجباً على كل مسؤول جلاء تلك الحقائق. لا من أجل انتقام. بل من أجل حق فرانسوا ورفاقه الأكثر من مئة، في حقيقة تريح أرواحهم وتحرر عقولنا. إذ من يؤكد أن أهل الظلام والغرف السوداء، لا يتحولون مرتزقة، أو مقاولي سياسات ورئاسات، يعملون بالأجر، وعلى القطعة، لدى كل وصي أو قوي أو غاز أو محتل؟ ومن يستبعد أنهم قد لا يعملون أحياناً، لحسابهم الخاص؟
بالعودة إلى الاستنتاج مما يحصل اليوم: لم تنفع الخطة «أ»، أو خطة الحرص الخبيث على الرئاسة والمسيحيين، والدعوة تحت ضغط الغيارى إلى الانتخاب الآن وكيفما كان. ثم لم تكفِ الخطة «ب»، أو خطة التهويل الأمني وموجة الشائعات، فصار محتوماً الانتقال إلى الخطة «ج». سفك الدم، وجعله نهراً عريضاً بحيث لا يجتازه ميشال عون ولا تتخطاه قدماه الحريصتان على الأمن السياسي حتى لمن كان خصماً.
تبقى فكرة مباشرة: لا علاقة لجان قهوجي بكل ما سبق. فهو مثل كل الوطن، جزء من متاهة تبدو أكبر من الوطن نفسه. لكنها هذه المرة أكثر خطورة وخبثاً. ويجب إسقاطها.