في يوم 21 آذار الماضي، احتفل في عمّان بعض أشباه القوميين واليسار السلطاني بذكرى معركة الكرامة التي اندلعت في اليوم ذاته عام 1968، أي بعد أقل من عام على هزيمة حزيران المدوية التي لحقت بالمعسكر العربي المعادي للصهيونية.كل شيء يبدو على ما يرام، إلى الآن. فالمعركة كانت نقطة تحول في مسار الحركة الوطنية الفلسطينية، كما سنتوسع قليلاً لاحقاً وإحياء ذكرى انتصار، مهما كان متواضعاً، أمر مهم، من الناحية النفسية على الأقل، حيث تكثر ذكريات المجازر والهزائم التي لا تفتأ تلحق بنا.

المشكلة في احتفال أشباه القوميين واليسار السلطاني، والذي يأتي ضمن السياق ذاته الذي عهدناه منهم، ألا وهو تسخير كل ما يمكن تسخيره لتسويغ سياسات عمّان المرتبطة ارتباطاً وثيقاً بالمشروع الأميركي - الصهيوني في بلادنا. فكلامهم عن تناقضات داخل النظام الأردني، ليس سمجاً ومملاً فقط، بل إنه التضليل بحد ذاته عبر الإيحاء بوجود خلافات حادة بين أعمدة المؤسسة الحاكمة، خصوصاً عندما يتعلق الأمر بالمأساة في سوريا. هذه لعبة يتقنها نظام عمان، ولا يمكن أن يصدقها أي كان، حتى المغفل. فأي حديث عن خلافات جوهرية بين أعمدة النظام بخصوص قضايا مصيرية في خدمة العدو الصهيوني، لا أساس له، وهو كلام باطل يراد به باطل.
مقدار تضليل أشباه القوميين واليسار السلطاني يتبيّن على نحو جلي بالعودة إلى احتفالهم بذكرى معركة الكرامة. فالتغطية الإخبارية في الصحف الأردنية لذلك الاحتفال أشارت إلى تنويه القائمين عليه بالدور الوطني والبطولي... للجيش الأردني في تلك المعركة.

الكلام عن تناقضات
داخل النظام الأردني ليس سمجاً ومملاً فقط بل إنه التضليل بحد ذاته
نحن لسنا في وارد البحث في فكر كل فرد من أفراد جيش صاحب الجلالة، نفراً وضباط صف وضباطاً، لأن هوية أي مؤسسة تحددها سياسات القائمين عليها وليس مشاعر هذا أو ذاك من أعضائها. نحن لا نمل من تأكيد قناعتنا، الراسخة، بوطنية كثير من جنوده، وربما بعض قياداته، لكن هذا لا يؤثر إطلاقاً في حقيقة الدور المنوط به، ألا وهو حماية النظام، وكيان العدو، وهي مهمة أداها، إلى جانب بقية أجهزة النظام الأمنية، بنجاح غير مسبوق منذ قيام نظام عمان الوظيفي.
لذا فإن الحديث عن معركة الكرامة وتجيير إيجابيات نتائجها لصالح الجيش الأردني عمل تضليلي متعدد الأهداف نستعرض بعضها تالياً.
الهدف الأول تمرير الادعاء، غير الصحيح طبعاً، بوجود خلافات جوهرية داخل المؤسسة الحاكمة في عمان، خصوصاً عندما يتعلق الأمر بالتدخل في المأساة السورية. وقد أشرنا في مقال سابق إلى أن كل ما كتب عن الاختلاف المزعوم ينطلق من منظور حماية نظام عمان وليس القلق على سوريا وشعبها ومستقبلهما.
الهدف الثاني، منح الجيش الأردني صك براءة من كل المهمات اللاوطنية واللاقومية التي يقوم، والتغطية على حقيقة أن سبب وجوده كنظام وظيفي يتلخص في حماية كيان العدو وحدوده.
الهدف الثالث تضليل الرأي العام بالادعاء بوجود تناقضات وخلافات جوهرية داخل نظام عمان تمس جوهر قضايانا الوطنية/ القومية.
الهدف الرابع، وهو الأساس في ظننا، عصبي ضيق الأفق، بل وعنصري، وهو التغطية على مرحلة مجيدة، وإن قصيرة، من النضال الوطني الفلسطيني التحرري. وهنا نود لفت الانتباه إلى أن عنصرية النظام، وملحقاته من أشباه القوميين واليسار الملكي، ليست مقتصرة على الفلسطينيين والتي تتجلى مجدداً في مشروع قانون «أزواج الأردنيات» بل اتسعت لتضم المواطنين السوريين الذين بدأ منعهم من دخول الأردن، والذي أتى بعد أحداث معان ذات الطبيعة الاحتجاجية الاقتصادية أولاً وقبل شيء، بهدف التغطية على كل سياساته والإفقار المستمر للشعب والإيحاء بأن وجود المهجرين السوريين سبب بلائه، وليس لصوص النظام وتبعيته العمياء لإملاءات حلف الناتو (بالبعد العقِدي للاسم). كما تتجلى وقاحة النظام العنصرية في إقامة نقطة تفتيش جديدة هي نسخة طبق الأصل عن رديفها الذي يعرف باسم «حاجز قلندية» الذي أقامه العدو الصهيوني في «الضفة الغربية».
عندما يشير المحتفِلون، أو بعضهم إلى أن الجيش الأردني (وفدائيين!؟) تصدى لقوات العدو الغازية وكبدها خسائر... إلخ، فإنهم مدانون بتهمة التضليل. وحتى تتضح ملامح هذا التضليل، القصدي بكل تأكيد، نطرح السؤال والتساؤل: لماذا اختار العدو الصهيوني الهجوم على بلدة الكرامة الواقعة على بعد كيلومترات معدودة من النهر في شرق الأردن؟!
كلنا يعرف أنه لم توجد نقطة للجيش الأردني في بلدة الكرامة، وهجوم قوات العدو عليها لم يقصد بالتالي مهاجمته كما حاول المضلِّلُون من أشباه القوميين واليسار الملوكي تمريره. هدف العدو الصهيوني كان قوات المقاومة الفلسطينية، وقوات حركة فتح تحديداً، التي تمكنت من إعادة تنظيم صفوفها في شرق النهر بعد فقدان قاعدتها الرئيسة في «الضفة الغربية». هذا لا يتناقض إطلاقاً مع حقيقة أن وحدات مدفعية الجيش الأردني المرابطة بالقرب من ميدان المعركة شاركت في قصف قوات العدو المتقدمة وسقط منها شهداء أبرار، وهو واجبها، الافتراضي، على أي حال، ولا نقبل منة من أحد. لكن هذا كله لا يغيّر إطلاقاً من طبيعة جيش صاحب الجلالة أو من طبيعة نظامه.
لقد قامت قوات العدو الصهيوني بغزو بلدة الكرامة بهدف القضاء على قوات المقاومة الفلسطينية المتخذة من البلدة مكاناً لانطلاق عملياتها العسكرية في فلسطين المحتلة. هذا تحديداً ما دفع وزير حرب العدو الصهيوني إلى القول في مجال تعليقه على خسائر قواته الكبيرة: من يدخل كفه في عش النحل عليه توقع قرصها.
أمر آخر، ما سبب قيام قوات العدو الصهيوني بعبور نهر الأردن في المقام الأول، وبصرف النظر عن الموقع الجغرافي، ليس مهاجمة جيش صاحب الجلالة بكل تأكيد. ثم أين كان ذلك الجيش العتيد عندما هاجم العدو الصهيوني منطقة غور الصافي جنوب البحر الميت؟ وفي السُّموع من قبل؟... والقائمة تطول.
وإذا شعر الناس بأن الجيش الأردني كان هو هدف قوات العدو الصهيوني الغازية، فلما لم ينخرط الآلاف في صفوفه واختاروا بدلاً من ذلك الانضمام إلى المقاومة الفلسطينية التي كانت تعرف وقتها بـ«العمل الفدائي».
إن صمت أشباه القوميين واليسار الملوكي في شرق الأردن عن الحقائق كافة المرتبطة بمعركة الكرامة يوضح على نحو جلي مشاركتهم في التضليل الملوكي وعنصريته، ليس فقط بما يتعلق بطبيعة نظام عمان، المتحالف مع العدو الصهيوني وكيانه، حتى قبل ولادتهما عامي 1946 و1948، وإنما أيضاً في تزوير التاريخ؛ ليس فقط تاريخ نظام عمان الحافل بالتآمر على قضايانا الوطنية والقومية ومن ذلك مجازر أيلول والأحراش عام 1970/ 1971، وإنما أيضاً صفحة نضالية ناصعة من التاريخ الوطني الفلسطيني، وهو ما يشرح امتناع السلطة الكاريكاتورية في رام الله عن إحياء هذه الذكرى المجيدة. فالحديث عن جدوى الكفاح المسلح، إن تم كما يجب، ولنا في قتال حزب الله أكثر من دليل ودرس، يعريها من أوراق التوت التي تحاول التستر بها لتسويغ سياسة الخضوع لإملاءات العدو.
إن أي حديث لأشباه القوميين واليسار الملكي في شرق الأردن عن «العمل الفدائي» وإيجابياته، التي توقفت بعد مجازر أيلول والأحراش، يعني فضح خطابهم التضليلي الذي يحاولون عبره تسويغ انبطاحهم، الطوعي، أمام نظام عمان وسياساته المتصهينة وتقديم الأعذار الواهية له كافة لمواصلة سياساته العدوانية تجاه شعبنا وأمتنا.
* كاتب عربي