تتلمذ مؤسسا الحركة السلفية الفكرية وجماعة الاخوان المسلمين على يدي رجل واحد هو الشيخ رشيد رضا: عاد الأخير، وهو شامي من طرابلس، إلى مجلته «المنار» في القاهرة بعد أن كان رئيساً لـ«المؤتمر السوري» الذي توج الأمير فيصل بن الحسين ملكاً على سوريا في آذار 1920، خائباً من سقوط دمشق بيد الفرنسيين عقب يوم من معركة ميسلون (24 تموز 1920). كانت آراء الشيخ رضا في مرحلة «ما بعد ميسلون» بعيدة من الآراء التجديدية للاسلام التي تشربها من أستاذه محمد عبده المتأثر والمتتلمذ على يدي السيد جمال الدين الأفغاني.
دفعت الهزائم السياسية أمام الغرب الشيخ رضا إلى اعتبار الاسلام هو «ما قاله (النبي والسلف الصالح) وما فعلاه»، ومعتبراً أن مصطلح «السلف الصالح» يدل فقط على الجيل الأول الذي عرف النبي، فيما كان الأفغاني وعبده يمدانه حتى الغزالي (505 هجرية). دفعت «ميسلون» الشيخ إلى الابتعاد من هواجس أستاذه عبده، وأيضاً الأفغاني، التي تمحورت كلها حول الإجابة على سؤال: «لماذا تقدم الغربيون، وتخلف المسلمون؟». لينزاح نحو نظرة دفاعية فكرية كان «النبع – الأصل» و«السلف» جدار يستند إليه أمام الزحف الغربي العسكري - السياسي- الفكري - الثقافي، وخطر الصهيونية الذي كان رشيد رضا أول من تنبه لتلازم صعود خطرها عبر الرافعة البريطانية في فلسطين منذ أن كان عضواً في الوفد السوري الفلسطيني إلى جنيف عام 1921.
كان الشيخ محب الدين الخطيب، وهو شامي من دمشق، كأستاذه متعاوناً مع الهاشميين، مع الأب الشريف الحسين ثم مع ابنه فيصل في دمشق، ورأس تحرير جريدة «العاصمة» الناطقة باسم الحكومة الفيصلية، ولما حصلت «ميسلون» غادر إلى القاهرة وأسس «المكتبة السلفية ومطبعتها»، وركز في الفكر من دون السياسة مكافحاً «الأتاتوركية» و«التبشير»، وما اعتبره انحرافاً عن «مسيرة السلف الصالح». تلاقى الشيخ حسن البنا، مؤسس جماعة الاخوان المسلمين في آذار 1928، مع أستاذه رشيد رضا ومع صديقه محب الدين الخطيب في رؤيتهما للخطر الغربي، ولكن كان رأيه أن «الأصل – النبع»، أي الكتاب وسنة النبي، هو الأولى بالاتباع، و«السلف» يقاس بميزان «الأصل- النبع»: «كل ما جاء عن السلف موافقاً للكتاب والسنة قبلناه وإلا فكتاب الله وسنة رسوله أولى بالاتباع» (البنا: «مجموعة الرسائل»، دار الأندلس، بيروت 1965، ص8). كان هناك خلاف آخر منذ البدء بين البنا والخطيب: رأى مؤسس «الاخوان» أن الخطر الغربي يفرض حاجة إلى «تقريب وجهات نظر أهل القبلة جميعاً من غير دخول في مناقشات مذهبية عقيمة» (اسحق الحسيني: «الاخوان المسلمون كبرى الحركات الاسلامية الحديثة»، دار بيروت، 1952، نسخة الكترونية، ص27)، شاملاً في مصطلح «أهل القبلة» السنة والشيعة تحت خيمة «اسلام عام» رأى جمال الدين الأفغاني أن النبي قد مارسه منذ البدء جامعاً المسلمين ومحدداً إياهم من خلالها (= أصول الاسلام التي لا اختلاف عليها بين المسلمين جميعاً والتي لا يكون المسلم مسلماً إلا إذا أيقن بها)، وأن الخلاف في الفروع لا يخرج الناس من ملة الاسلام. في شهر كانون ثاني 1947، وفي أجواء تقاربية ساعد زواج شاه ايران من أخت الملك فاروق على دفع الأزهر لإضافة «المذهب الجعفري» مذهباً للتدريس معترفاً به. واستضاف البنا في مقر قيادة الجماعة في القاهرة شيخاً شيعياً ايرانياً، هو السيد محمد تقي القمي، وقاما بتأسيس «دار التقريب بين المذاهب الاسلامية». رد الشيخ محب الدين الخطيب على «دار التقريب» بمقالة طويلة اعتبر فيها الشيعة الإمامية «ديناً» وليست مذهباً، ومعتبراً أن «استحالة التقريب بين طوائف المسلمين وبين فرق الشيعة هي بسبب مخالفتهم لسائر المسلمين في الأصول».

في أزمة الكويت
وحرب الخليج افترقت غالبية الحركة الإخوانية عن الرياض

كان هذا فالقاً فكرياً بين «السلفية» و«الأصولية»: كاد أن يترجم إلى السياسة في 17 شباط 1948 لما دعم البنا انقلاب «حزب الأحرار»، وهو يضم زيدية وسنة شافعية، على الإمام الزيدي يحيى، فيما دعم الملك عبد العزيز آل سعود، المتحالف مع الوهابية السلفية، ابن الإمام المقتول، أحمد، في العودة للحكم عبر انقلاب دموي مضاد بعد أربعة أسابيع. ربما تشجع الملك فاروق، انطلاقاً من سابقة صنعاء التي أخافت سائر الملكيات العربية، على اغتيال البنا يوم 12 شباط 1949. ما أبعد البنا عن آل سعود السلفيين الوهابيين قرّب خليفته حسن الهضيبي من الرياض لما اصطدم الأخير مع حكام القاهرة الجدد الجمهوريين – الثوريين لدرجة دفعت الملك سعود بن عبد العزيز في صيف 1954 لتخصيص طائرة خاصة لمرشد الاخوان نقلته من الرياض إلى دمشق قبل أن يعود للقاهرة ويدخل في صدام دموي بخريف ذلك العام مع عبد الناصر كانت المشانق والزنازين والمنافي مصائر للاخوان على إثره. خلال عقود أربعة لاحقة حتى حرب 1991 غطى التلاقي السياسي بين «الاخوان» و«الرياض»، التي أصبحت العاصمة الفكرية للحركة السلفية، وخصوصاً مع تقارب المؤسس الثاني للسلفية وهو الشيخ ناصر الدين الألباني، وهو دمشقي أيضاً، من الرياض، ضد عبد الناصر والسوفيات بأفغانستان، على الخلاف الفكري بينهما حتى عندما تفارقا سياسياً في النظر إلى الخميني عند ثورته على الشاه وعقب وصوله للسلطة في طهران يوم 11 شباط 1979، والذي كان تلميذه وخليفته، أي السيد خامنئي، قد ترجم منذ الستينيات كتباً عديدة لسيد قطب، ثم تفارقا سياسياً في محطة الحرب العراقية - الايرانية التي وضعت مجلة «الاعتصام»، الناطقة باسم «الاخوان» في القاهرة في عدد تشرين أول1980، بعد بدئها بأيام صورة لصدام حسين مرفقة بالكلمات التالية: «الرفيق التكريتي... تلميذ ميشيل عفلق الذي يريد أن يصنع قادسية جديدة في إيران المسلمة».
أيضاً، قام سوري آخر بانشاء لبنة جديدة لانشقاق سلفي - اخواني اضيفت لما قام به محب الدين الخطيب عام 1947: عقب صعود الخميني للسلطة وبوادر الخلاف السعودي - الايراني قام محمد سرور زين العابدين، وهو أستاذ رياضيات من حوران لجأ للسعودية عام 1965 عقب صدام «الاخوان» و«البعث»، وقام بالتدريس في منطقة القصيم معقل الحركة السلفية بوسط السعودية، بإصدار كتاب تحت اسم مستعار (عبدالله الغريب) في نهاية عام 1979 بعنوان «وجاء دور المجوس» موجهاً ضد الشيعة والخميني، وعندما أبعدته قيادة «الاخوان» السورية عام 1982 قام بتـأسيس حركة فكرية – سياسية، سميت بـ«السرورية»، لقيت انتشاراً كبيراً في السعودية بالأوساط الأكاديمية والطلابية والثقافية هناك، جمعت وفق تعبير أحد الباحثين السعوديين «بين عباءة الشيخ محمد بن عبد الوهاب وبنطال سيد قطب».
في أزمة الكويت وحرب الخليج (2 آب1990 - 28 شباط 1991) افترقت غالبية الحركة الاخوانية (ما عدا جناح أبوغدة – البيانوني المنشق منذ عام 1986مع جناح عدنان سعد الدين الموالي لبغداد، والفرع الكويتي الاخواني) مع الرياض ضد استعانة الأخيرة بواشنطن لضرب العراق ولاستقدامها قوات أميركية إلى «أرض الحرمين». في عام 1994انضمت «الحركة السرورية» إلى «الاخوان» في ذلك. في شباط 1998 قام أسامة بن لادن وأيمن الظواهري بتأسيس «قاعدة الجهاد» معلنين تأسيس تنظيم عالمي يتبنى «السلفية الجهادية»، والأول وهابي متأثر باخواني قطبي هو عبدالله عزام والثاني مصري متأثر مباشرة بسيد قطب، وضع نفسه في مجابهة جبهية مع واشنطن والرياض، التي ظلت في إطار الوهابية السلفية الدعوية والتي ترضى بسلطة «ولي الأمر»، وفي افتراق حركي – فكري - سياسي مع «الاخوان». كان وجود غالبية من السعوديين بين القائمين بعملية 11 أيلول 2001 محرجاً للرياض ومؤدياً لهزة مع حليفتها واشنطن، وفي الوقت نفسه فاتحة لعمليات واسعة قامت بها «القاعدة» داخل السعودية في فترة 2002 - 2004. كان مفاجئاً تصريح الأمير نايف عن أن «جماعة الاخوان المسلمين أصل البلاء. كل مشاكلنا وافرازاتنا جاءت من جماعة الاخوان المسلمين، فهم الذين خلقوا هذه التيارات وأشاعوا هذه الأفكار» («السياسة»، الكويتية، 23 نوفمبر/ تشرين الثاني 2002)، ولكنه كان الطلقة الأولى ليس ضد السلفية الجهادية، التي كافحها هو أمنياً كوزير داخلية وقام بالتضييق على السروريين، ولكن ضد ما اعتبره «أصل البلاء» في «الاخوان» التي كان واضحاً أنه يعتبر أن التناقض الرئيسي للرياض هو معها وأنها هي الخطر الرئيسي، من الناحية الإيديولوجية والسياسية ومن حيث الفعالية، فيما «السلفية الجهادية» يعتبرها فرعاً وفرخاً لـ«الاخوان»، ولا تحتاج لأكثر من معالجات أمنية موضعية.
لم يترجم هذا مباشرة من السعودية، ولكن بعد عشر سنوات ظهرت مفاعيله مع صعود «الاخوان» في القاهرة وتونس وطرابلس الغرب وفي المعارضة السورية عقب «الربيع العربي» البادئ عام 2011. ركزت الرياض حربها على «الاخوان» في «قاهرة محمد مرسي» متعاونة مع العسكر وبقايا نظام مبارك وسلفيي حزب النور وعلمانيين ويساريين. وهو ما فعلته في «ليبيا خليفة حفتر» من دون السلفيين الذين ظلوا من دون تناقض هناك مع الأصوليين، ومع شيء مماثل في «تونس الغنوشي» أيضاً من دون سلفيين ظلوا أقرب للظواهري من قربهم من نموذج حزب النور، وفي المعارضة السورية مع علمانيين ويساريين ضد «الاخوان»، وبغض نظر عن «داعش» و«النصرة» قبل أن يضعهما المرسوم الملكي السعودي يوم 7 آذار 2014 مع «جماعة الاخوان المسلمين» مع أفول نفوذ الأمير بندر عن الملف السوري.
في سوريا هناك انشقاق اخواني - سلفي جهادي، وهو موجود أيضاً في تونس واليمن. في مصر هناك انشقاق اخواني – سلفي وانشقاق اخواني- سلفي جهادي. في ليبيا ليس الوضع هكذا حيث يتلاقى «الاخوان» و«السلفية الجهادية» ضد حفتر. بين السعودية و«الاخوان» هناك تصادم في سوريا ومصر وليبيا وتونس، ولكن ليس في اليمن حيث تشعر الرياض بأن «التجمع اليمني للاصلاح» هو جدار ضد الحوثيين. اللافت للنظر أن يضع المرسوم الملكي السعودي اسم «جماعة الاخوان المسلمين» عاماً ومطلقاً فيما حدد بين التنظيمات التي يحظرالانتماء لها أو تأييدها (حزب الله في المملكة) من دون أن يكون هذا شاملاً لكل تنظيمات (حزب الله).
هذا يقود إلى أن الانشقاق السلفي - الاخواني شبيه بحجمه ومفاعيله في داخل الحركة الاسلامية العالمية ما كانه الانشقاق الصيني - السوفياتي عام1960 داخل الحركة الشيوعية العالمية.
* كاتب سوري