رغم كل الموت والأحزان المحيطة بنا، من الجهات كافة، ورغم آلامنا التي لا حصر لها وأوجاعنا التي تقارع السماوات وصراخاتنا التي تضيع في البراري، ومع أننا فقدنا، في السنوات الثلاث الماضية، كل ما يجمعنا وما استحلنا به بشراً، أو نكاد، يظن المرء أنه لا مكان في حيواتنا للحزن وللإحباط.قبل أيام غادرتنا إلهام، بعد صراع ثان مع المرض اللعين، أمسك بها، في لحظة معتمة تمر على هذا البلد وعلى أمتنا، ورفض أن يعيدها إلينا، كما فعل في المرة الأولى، قبل ما يزيد عن عقدين من الزمن.

ثمة كثير يمكن قوله عن الراحلة الكبيرة بلا ادعاء، الصدوقة حتى التماهي مع الحق، والصادقة مع كل من صدقها ومع نفسها الطيبة.
أذكر، ويذكر معي كل الأصدقاء والمعارف، أنه إبان وداع العزيز الكبير ممدوح عدوان، رفيق دربها، الذي أحبته كما تحب النساء الرجال، بكت إحدى السيدات فما كان من إلهام إلا أن صرخت، بصوت حازم لا يقبل التأويل: على ممدوح لا تذرف الدموع، بل نقف تحية وننشد أغانيه التي أحبها، ونردد فخر قصائده التي تتردد على كل لسان، ومسرحياته التي تدرس في كل معاهد التمثيل، كي نتذكر مسقط رأسه قيرون في عمق ريف مصياف.
مئات الساعات حظيتُ بها في حضرتك، أيها العزيزة الغالية مع زياد ومروان، برفقة الغائب، الحاضر دوماً، وكم نحن وسوريا في حاجة إليه في هذه الأيام المعتمة التي طالت. مئات الأمسيات قضيناها في بيتكم في حي المزة في دمشق وفي حلب وفي بيروت وفي القاهرة وفي دبي وفي أبي ظبي، ليس فقط ثلاثتنا، وإنما برفقة عشرات من النخب ومن قامات الثقافة والأدب في ديار العرب. وأنا أجلس الآن وحدي في حاضرة بني أمية التي تعيش أصعب أيامها، ربما منذ أيام الغزو المغولي، إن لم يكن بالمطلق، أتذكر تلك الأمسيات التي لا حصر لها، بحضور أعزاء من كبار القوم، شرفني صديقي وعزيزي ممدوح عدوان بتقديمي إلى كثير منهن ومنهم، فأقمنا علاقة لم تنقطع إلى يومنا، رغم ضيق المكان والروح والزمن. أمسياتنا بعد رحيل جسده لم تتوقف، لأن روحه بقيت:
في هذه الأيام الحزينة أتذكركن وأذكركم أيها الأصدقاء والأحبة؛ أتذكر د. فريال أبو عسلة وعادل محمود وأنطوانيت ورواد إبراهيم ومخلصة اللجمي، وقيس الزبيدي وشقيقتك منى عبد اللطيف أيوبية ومحمود أيوبية وليلاس وزياد إسرب ونزيه أبو عفش وعروة نيربية وفاطمة البودي وعبلة الرويني ورابعة فهمي وابتهال يونس والراحل الكبير نصر حامد أبو زيد وأحمد عبد المعطي حجازي ومحمود درويش ومحمد ملص وانتصار صفية وسعاد جروس ومية الرحبي وميسون علي ورلى الركبي وليالي بدر وغسان مسعود وهيثم حقي ونبيل سليمان وماهر بدر وسوسن حسن وأمل مخلوف وجحجاح خضر وآصف شاهين و و و...
معذرة إلهام والأصدقاء والزملاء والمعارف فالقائمة تمتد، بطول المسافة من دمشق إلى اللاذقية فقيرون.
لا ننسى كل تلك الأماسي التي أقامتها إلهامنا لكل منا ومقيم، وكانت تصر، دوماً، على حضور (ذاك العزب المشرد!). اعترف مجدداً بأن أيامي معكم، أينما وجدنا، كانت الأجمل والأكثر إثراء لروحي ولنفسي، ولأني على يقين من أن الموت ما هو إلا العيش بأسلوب مختلف، وأن الإنسان لا يموت، فأنت، يا إلهامنا، ويا ممدوحنا، معنا، نحن محبيكما، إلى الأبد، وأنتما معنا ما دمنا.
إلهام عبد اللطيف عدوان لم تستلم بعد رحيل حبيبها ورفيق دربها، بل أثبتت مقدراتها التنظيمية والإدارية والفكرية والإبداعية الكبيرة فبادرت إلى تأسيس دار نشر حملت اسم رفيق دربها «دار ممدوح عدوان». وأصدرت، في فترة زمنية قصيرة عشرات، بل مئات الكتب في الشعر والرواية والمسرح، وأعادت طباعة بعض أمهات الكتب التي كتبها ومنها مجموعات شعرية لم تنشر قبل رحيله، وكتاب «حيونة الإنسان» الذي يعد بحق من أهم ما كتب الراحل الكبير في مجال الأدب السياسي، بل لربما الأهم بلغة الضاد في أيامنا هذه. كانت حريصة كل الحرص على إتقان عملها الجديد، رغم قلة الخبرة وضيق الحال.
لهذا كله، ولأسباب أخرى لا حصر لها، أيتها العزيزة الغائبة الحاضرة، اسمحي لنا القول: على إلهام عبد اللطيف عدوان، ملهمتنا، الرجال أيضاً يبكون.
لكم جميعاً تعازي الحارة أيها الأصدقاء أينما كنتم، والعزاء لنا. فالشجرة الورفاء المورقة المزهرة، وإن فقدت مجددًا غصناً أخضر، فإنها لن تذبل.


* كاتب عربي