نضال هيئة التنسيق النقابية على مدار أكثر من عامين، من أجل تصحيح الأجور لموظفي القطاع العام والمعلمين في المدارس الخاصة والرسمية، أشاع حيوية استثنائية لم يشهدها المجتمع اللبناني سابقاً. نجح في تحفيز فئات اجتماعية جديدة للانخراط في قضايا الشأن العام. حتى إنه حرّك تحالف أصحاب المصارف والتجار ودفعه إلى الخروج علناً للمرة الأولى، وحشد ماكينات التحريض الإعلامية والسياسية، وحتى الأكاديمية لرفض أي تعديل يطاول السياسات المالية والضرائبية المعتمدة. وهذا ما وضع القوى الريعية في مواجهة واضحة مع وكلائها السياسيين حول سبل إدارة الأزمة، التي برزت تحت عنوان تصحيح الأجر، وجرى التحايل عليها في القطاع الخاص عبر صفقة إذعان تمت مع قيادة الاتحاد العمالي العام.
الهيئة بمكوناتها المختلفة، أو على الأقل الفئات التي اعتادت التحرك والإضراب لنيل مطالبها، ولا سيما اساتذة التعليم الثانوي الرسمي، فوجئت بالموقف المتعنت والنزق لهيئات أصحاب العمل وبتخبط الحكومة لناحية الإقرار بمطالبها، ما دفعها إلى تطوير شعاراتها ورفض تمويل السلسلة من خلال الرسوم والضرائب غير المباشرة، وتحديداً الضريبة على القيمة المضافة. في المقابل، كشفت مواقف هيئات أصحاب العمل زيف ادعاءاتها حول تبنيها مبادئ «الحوار البناء»، لا الصراع، بين «شركاء الإنتاج»، وكشفت هذه المواقف أن تلك «الادعاءات» لم تكن إلا لتبرير تسوية «إذعان» قبل بها الاتحاد العمالي العام في معركة تصحيح الأجر في القطاع الخاص عام 2012، وكرّست مكاسب الريوع والأرباح على حساب الأجور وسياسات إعادة التوزيع الأكثر عدالة. ليس هذا فحسب، بل إن ممثلي أصحاب الرساميل نقضوا مبدأ «التوافق» الذي ينادون به، ونادوا الحكومة لتطبيق صارم لقوانين الدولة التي تمنع الموظفين من أي عمل نقابي وتحظر عليهم الإضراب والاحتجاج.
الهيئة مطالبة
بإطار تنظيمي
جديد واستراتيجية
مختلفة
تعنّت ممثلي المصالح الريعية وتواطؤ القوى السياسية المسيطرة على الدولة، عاملان أساسيان أسهما في جعل القضية تتجاوز مسألة تصحيح الأجر إلى فتح النقاش الجدي حول دور الدولة الاجتماعي وسياساتها في هذا المجال، إن على صعيد توفير فرص عمل لائقة، وصولاً إلى التغطية الصحية للمواطنين والسياسة الإسكانية وضمان الشيخوخة والمعاش التقاعدي للأجراء ومدى المشاركة الفعلية للمواطنين في تحديد السياسات التي تمسهم في حياتهم اليومية.
أسهم تردد قيادات الهيئة في عدم التقاط الفرصة المتاحة أمامها لتوسيع المعركة وتمثيل أطراف أخرى متضررة من سطوة التحالف الطبقي – الطائفي، وبالتالي أسهم هذا التردد في حرف الأنظار عن جوهر القضية، وهو في الخيارات الاقتصادية والاجتماعية والسياسات النابعة منها، ما حصر السجال بأمور محاسبتية بحتة، وأتاح محاولة تحميل الهيئة مسؤولية البحث عن سبل تمويل السلسلة، ووضعها في موقع المتهم أمام المواطنين برفع الرسوم والضرائب غير المباشرة، فضلاً عن التهويل غير المبرر بأن تصحيح الأجور يؤدي إلى انهيار العملة.
أمام هذا الواقع، أصبحت هيئة التنسيق، ممثلة بقياداتها، مطالبة بالانتقال ببنيتها التنظيمية واستراتيجيات عملها بما يمكّنها من الابتعاد عن صورتها كتحالف الضرورة المؤقتة ما بين أصحاب المصالح المتقاطعة. باتت مطالبة بأن تقدم نفسها ككيان تنظيمي نقابي موحد الأهداف والشعارات. هنا لا بد من القطع مع منهجية عمل أقطاب الهيئة الذين ما فتئوا يذكروننا بأنهم يشكلون تحالفاً غير منسجم، ويعتمدون منطق المحاصصات والمداورات في عرض مطالب مكوناتها المختلفة عند كل تحرك أو مناسبة. فالهيئة لا تزال هيكلاً غير منسجم، يجمع فئات من الأجراء لديها مطالب مختلفة بالأجر والوظيفة، وتطمح إلى تحقيقها بتضامن بعضها مع بعض. إلا أن آلية عمل كهذه ستمكّن السلطة من اللعب على تناقضات مكونات الهيئة لإمرار حلول جزئية على حساب جوهر القضية، وهو إعادة الاعتبار إلى مفهوم العدالة الاجتماعية والحق بالتنظيم النقابي والمفاوضة الجماعية والمشاركة في صياغة السياسات الاقتصادية والاجتماعية.
كي لا تتمكن التركيبة السياسية الحاكمة من استهداف وتفتيت جهود هيئة التنسيق النقابية، على الأخيرة أن تستفيد من التجارب والدروس التاريخية للطبقة العاملة في لبنان. فقد نجح النظام السياسي اللبناني منذ الاستقلال في تجزئة القوى العاملة إلى فئات وشرائح منفصلة ذات مصالح متعارضة وأحياناً متناقضة، وأسهمت التركيبة الاجتماعية الطائفية – المناطقية للشعب اللبناني في تحقيق ذلك من دون أدنى شك. وأتت التشريعات والقوانين لتحقق المهمة، فالقوانين الناظمة لعلاقات العمل في القطاع الخاص مختلفة عن تلك المتعلقة بموظفي القطاع العام، مع أنظمة خاصة للفئات المختلفة داخل القطاع العام نفسه (إدارة عامّة، عسكر، قوى أمن، هيئة تعليمية، أساتذة الجامعة اللبنانية، قضاء، مؤسسات عامة ومصالح مستقلة... إلخ)، كذلك ميزت هذه القوانين بين الأجراء لجهة حقهم في تشكيل منظماتهم النقابية (حُرم موظفو القطاع العام هذا الحق، ووُضعت قيود استنسابية للعاملين في القطاع الخاص). وانسحب التمييز نفسه على التشريعات في التقديمات الاجتماعية بين مختلف فئات الأجراء وعموم المواطنين. ويمكن المرء ملاحظة هذا الأمر من خلال وجود صناديق ضمان وتأمين صحي متعددة واختلاف أنظمة التقاعد (معاش تقاعدي أو تعويض نهاية خدمة). يضاف إلى كل ذلك أن السلطة السياسية تعاطت دائماً بنحو جزئي واستنسابي مع المطالب العمالية، مكرسة منطق «الفئوية المهنية» من خلال منح امتيازات لشرائح عمالية على حساب أخرى. أفاد هذا فئات من الموظفين العاملين في مهن تحتاج إلى مستوى عالٍ من التعليم والقدرة على التنظيم، لكنه أثبت فعالية في الحد من قدرة الطبقة العاملة مجتمعة على التأثير في السياسات العامة لمصلحة نظام أكثر توازناً وعدالةً. لقد تعاملت قيادات الهيئة كما كافة القيادات النقابية العمالية اللبنانية مع هذا الواقع كأمر طبيعي ومقبول. ويشكل استمرار عملها على هذا الأساس دون أي محاولة جدية لكسره خدمة نفيسة للتحالف الحاكم وضربة قاسية لإمكانية إدخال قوى اجتماعية مغيبة ومكسورة إلى ساحة العمل السياسي. ففيما يستنفر التحالف الحاكم قواه، ويعلن أهدافه بوضوح، ليس أقلها العمل على إفشال الهيئة وكسرها وتشتيت قياداتها الفاعلة، تصر هي على تقديم نفسها جسماً هشاً وغير موحد قابل للتفكك في أي وقت.
طبيعة المعركة التي تخوضها هيئة التنسيق النقابية ونوعية المواجهة التي فرضها التحالف الحاكم في ظل الأوضاع السياسية والاقتصادية الوطنية والإقليمية يضع الهيئة أمام خيارين لا ثالث لهما: إما الإبقاء على محدودية المطالب (تصحيح الأجر)، وبالتالي الدخول في تسوية تؤدي إلى استيعاب الهيئة وإعادتها إلى الحظيرة على غرار الاتحاد العمالي، مع ما يحتمه ذلك من تغيير في قيادتها أو تفتيت الهيئة من خلال بعض القوى السلطوية المنضوية فيها، وإما الذهاب إلى تغيير شروط المعركة والعمل الجدي على بناء قوة اجتماعية واسعة التمثيل وقادرة على إحداث توازن اجتماعي يحقق ما هو أبعد من المطالب المرفوعة. لتحقيق ذلك، على الهيئة بدايةً العمل على تغيير الصورة الذهنية التي كرستها عن نفسها، والتي ساعدت خصومها من خلالها على تصويرها كمجموعة من الموظفين والمعلمين من ذوي الرؤوس الحامية والمهتمين فقط بمصالحهم الشخصية غير العابئين بالوطن واقتصاده! وعليها أيضاً العمل على إعادة تشكيل نفسها كمركز نقابي وطني على أساس مبادئ وقيم الحركة النقابية الديموقراطية والمستقلة، على أن يشمل ذلك توسيع إطار عضويتها عبر مساعدة العاملين في مؤسسات الدولة، بغض النظر عن شكل عقودهم (مستخدم، أجير، متعاقد، متعامل، مياوم، عامل بالفاتورة، أو بالساعة...) أو آليته (عبر مباريات مجلس الخدمة المدنية أو التعيين أو التمرير بالواسطة...)، على تشكيل أطرهم التنظيمية الممثلة أو دمجهم في أطرها بعيداً عن الذرائع التي تكرس التمييز بين فئات الأجراء، وتشكل تعزيزاً لمنطق تحالف السلطة. وأن يشمل أيضاً مساعدة العاملين في الاقتصاد غير المنظم والمعطلين عن العمل (بما في ذلك الناجحون في مباريات مجلس الخدمة المدنية من غير المعينين) على تكوين منظماتهم على أسس ديموقراطية وتمثيلية، ودعوة الحكومة وممثلي أصحاب العمل إلى الاعتراف بهم كطرف أصيل وممثل للأجراء والدخول معهم في حوار اجتماعي يطاول السياسات الاقتصادية والاجتماعية كلّها، بما فيها التشريعات الناظمة لسوق العمل.
إن إعلان الروابط المكونة لهيئة التنسيق النقابية عن تحولها إلى نقابات بحسب معايير العمل الدولية هو أساس هذا الخيار بما يمكنها من أداء دور قيادي في هذا الإطار الجديد في ضوء تجربتها.
في ضوء وضوح تركيبة هيئة التنسيق النقابية، يمكن توقّع الخيار الذي قد تذهب إليه، وهنا تبرز مسؤولية الغائب حتى هذه اللحظة، أي القوى المدنية التقدمية ونخبها وتنظيماتها في لبنان، عبر اتخاذها خطوات فعلية لا لفظية تُسهم في تمتين مواقف قيادة الهيئة للذهاب نحو خيار بناء حركة نقابية ديموقراطية مستقلة وممثلة. إن فشل الهيئة في الذهاب نحو إطار تنظيمي جديد واستراتيجية مختلفة في مواجهة التحديات الحالية سيكون ذا كلفة عالية، ستدفع القوى المدنية التقدمية ثمنها حيث سترتب على خياراتها انسحاب وإحباط كتل اجتماعية إلى خارج حيز النضال العام وخسارة فرصة بناء قوة اجتماعية على أساس مصالح مادية مشتركة وحقيقية قادرة على إحداث تغيير في بنية النظام اللبناني.
إن بناء مثل هذا الإطار أضحى شرطاً أساسياً لمواجهة تفرد التحالف الطبقي – الطائفي الحاكم في صياغة الحاضر والمستقبل، وللضغط من أجل إصلاح ديموقراطي في السياسات الاقتصادية – الاجتماعية يفتح أفقاً رحباً من أجل بناء مجتمع العدالة والمساواة. إن التضامن الفعلي مع تحركات الهيئة يتطلب إعادة تقويم فعلي من قبل القوى المدنية التقدمية لطبيعة الصراع الاجتماعي وسبل التغيير الممكنة والتركيز على تقديم كافة أشكال الدعم والإمكانات، بما يسمح للقوى العاملة ببناء قدراتها التنظيمية وبرامج عملها وتعزيز تضامنها مع الفئات الاجتماعية المتضررة والمرشحة لمزيد من الانهيار، في ظل تواصل نهج السلطة بغض النظر عن وجهي العملة الواحدة، في هذا المجال: 8 و14 آذار .