يسعى دعاة «الشراكة بين القطاعين العام والخاص» إلى نفي شبهة الصيغة المموهة للخصخصة عنها، ويحاولون إيهام الناس بأنها الخيار الوحيد المتاح لإنشاء البنى التحتية، وأن مشاريعها لن تكلف الدولة والمجتمع شيئاً! فيما لا يقتنع عدد من الاقتصاديين بـ«براءة» الشراكة من الخصخصة، ويستحضرون التجارب السوداء للأخيرة في لبنان والعالم، ويرى بعضهم أن لا علاقة فعلياً بين الشراكة والخصخصة، إلا أنه يرى أن الكلام عن أن مشاريع الشراكة مجانية و«لا تزيد الدين العام» بمثابة «إعلان مسبق عن نية الغش». وفي كلتا الحالتين، يُجمع أصحاب وجهتَي النظر على أسبقية «الإصلاح السياسي والإداري» على الدخول في مشاريع كهذه، وإلا التفلت والنتائج الكارثية ونهب الأموال والأصول العامة.
هناك دائماً خيار

يسوّق «الدليل التوجيهي» لعقود «الشراكة بين القطاعين العام والخاص في لبنان»، الصادر أخيراً عن «المجلس الأعلى للخصخصة»، مشاريع الشراكة على أنها «السبيل الوحيد لتمويل وإنشاء البنى التحتية» الحيوية، كالموانئ والطرقات ومنشآت الصرف الصحي والغاز والكهرباء والاتصالات وغيرها، في ظل تردي البنى التحتية، وبالتالي الخدمات العامة، والحاجة إلى خلق فرص عمل وافرة. ويبرر الدليل اللجوء إلى «الشراكة»، دون غيرها من خيارات تمويل المشاريع وتنفيذها وتشغيلها وصيانتها، بعجز الدولة عن الاستثمار «دون زيادة الدين العام أو الضرائب»، وضمان تنفيذ المشاريع بالوقت والكلفة المحددين، وتحسين نوعية الخدمة و«تعزيز الشفافية»!
نحاس: البهرجات جميعها غايتها تمويه المسألة وتخبئة جزء من الدين العام
«مقولات «اللابديل» و«السبيل الوحيد» مرفوضة أساساً ومنهجياً، لأنها تعطل العقل والحاجة إلى التفكير والدراسة»، يقول الخبير الاقتصادي والوزير الأسبق شربل نحاس، واصفاً القول بأن الشراكة هي «السبيل الوحيد» لإنشاء البنى التحتية بـ«الكذبة التأسيسية». بدايةً، يعرّف نحاس الشراكة، «ضمن الانتظام القانوني»، بكونها «إحدى الصيغ لعقود الأشغال العامة»، ويؤكد أن «لا علاقة لها بالخصخصة لا من قريب ولا من بعيد». عادة ما تقوم الدولة بتلزيم مختلف أشغالها ومهماتها، وبأشكال مختلفة، إلى أفراد ومؤسسات وشركات، يكونون غالباً من القطاع الخاص المحلي والأجنبي على السواء، فيقومون بحسب عقد التلزيم بتقديم إنشاءات أو خدمات، يقبضون لقاءها مالاً، يقول نحاس، شارحاً أن الفرق بين الصيغة المألوفة للأشغال العامة وصيغة «الشراكة» المطروحة أنه «بدل أن تقول لأحدهم إليك دفتر الشروط والمواصفات»، تحدد له مهلة زمنية معينة ليبني ويشغل لحساب الدولة مرفقاً عاماً ما، بمواصفات خدمة وشروط هندسية معينة، أي بدل أن تلزّم الدولة المتعهد «غرضاً مادياً محدداً»، تلزمه «ضمن شروط مادية محددة»، تأمين «خدمة محددة»، ولا شيء في مبدأ الانتظام العام أو في فلسفة العقود بين الدولة وأي طرف آخر ما يمنع ذلك، ولا فرق كبيراً بين «الشراكة» وتلزيم إنشاء شيء ما وتشغيله وصيانته لفترة محددة.

المصارف هي المستفيدة

كأي عقد تلزيم، يتابع نحاس، تتنوع شروط دفع الدولة لمستحقات الملتزم؛ فقد يتم تأجيل الدفع لسنوات خمس، أو قد تقسّط الدولة المستحقات بدءاً من مرور سنة على نهاية تسليم المشروع، على سبيل المثال. فلا جديد في هذه المسألة في عقود «الشراكة»، و«لا يعدو الأمر كونه تعديلاً في شروط دفع ثمن العمل»، والدولة ستدفع ثمن المشروع في جميع الأحوال، والمال الذي يحصّله الملتزم كرسوم تحدد قيمته الدولة، لكن يحصّله لحساب الدولة، يؤكد نحاس، و«القضاة والحقوقيون يعرفون ذلك». ذلك يعني أن المبالغ التي تترتب على الدولة لمصلحة الملتزمين يجب أن تستوفي شرطين، بحسب نحاس: «أن ترد في باب النفقات في موازنات السنوات المعنية، وأن يكون ذلك مقرراً وفقاً للأصول بشكل مسبق كشرط الدفع للملتزم، والمبالغ المستحقة في آجال لاحقة تكون محجوزة ومحسوبة ضمن الدين»، فالمبالغ المترتبة على الدولة بآجال ومبالغ معينة «هي لغوياً وبالتحديد تعريف الدين»!
خلافاً لادّعاءات «المجلس الأعلى للخصخصة» وسائر المسوقين للشراكة بأنها لا تنطوي على زيادة الدين العام، يؤكد نحاس أن «لا فرق بين تقسيط المستحقات والدين العام»، وفي حين أن «الشق المتعلق بكيفية التنفيذ والتشغيل وطريقة صياغة العقود موضوع تقني قابل للنقاش» بناءً على دراسة كل حالة أو مشروع على حدة، يشدد على أن «الغش» يكمن في مسألة التمويل، والادعاء أن الشراكة تشكل «حلاً سحرياً» للحصول على بنى تحتية «مجانية»، وأن القطاع الخاص يقدر على عمل أشياء تعجز عنها الدولة المفلسة! «الكلام الساذج هذا لا علاقة له بالواقع»، يقول نحاس، مشيراً إلى لعبة خداع في «لصق» مسألتين مختلفتين، «شكل معين من عقود الأعمال، وشكل معين من عقود التمويل»: «الشكل الأول تقني لا اعتراض مبدئياً عليه»، يقول نحاس، أما الثاني فمشكلته «الكذب على الناس بالقول لهم إن الأمر مجاني، في حين أنه شكل من أشكال التمويل الذي لا يجدر بتّه قبل مقارنته بأشكال أخرى». فإذا لم يكن باستطاعة الملتزم تمويل المشروع بكلفة أقل من كلفة استدانة الدولة، فلا مبرر لتكبّد الدولة أكلافاً إضافية. المصارف هي المستفيد الأكبر من صيغة «الشراكة»، إذ يصعب التصور، في أي بلد كان، أن تستطيع شركة خاصة الاستدانة من المصارف بفائدة أدنى من تلك التي ترضى الأخيرة بتسليف الدولة على أساسها، يجزم نحاس. فبدلاً من تمويل الدولة بكلفة الاستدانة السيادية، وهي الكلفة أو الفائدة الأدنى، تموّل المصارف الجهات الخاصة بفائدة أعلى حكماً، ما يؤدي في نهاية المطاف إلى نقل الجهات الخاصة لكلفة الاستدانة الإضافية إلى الدولة والمواطن مستهلك الخدمات.

نمط «رأسماليّة الأصحاب»

«البهرجات جميعها غايتها تمويه المسألة وتخبئة جزء من الدين العام»، يقول نحاس، ويرى في قول مروّجي «الشراكة» إن تمويل الدولة لمشاريع البنى التحتية يحتّم زيادة الدين العام أو زيادة الضرائب، «اعترافاً بنيّة الغش»! «فإذا كان الموضوع مجرد تعديل في قانون المحاسبة العمومية لإدخال صيغ أخرى لدفاتر الشروط، فهو أمر جيد، أما إذا كان الأمر متعلقاًَ ببيع أوهام الحلول السحرية المجانية، فالمطلوب سد منيع يوقف المهزلة هذه من أول الطريق»!
كيفما كان شكل العقود بين الدولة والملتزمين، «تنتهي العملية بفضيحة» إن لم تكن الدولة قادرة على وضع دفاتر الشروط على نحو ملائم ومراقبة التنفيذ وملاحقة المخالفات «بالرغم من حماية المافيات المختلفة» لزبائنها من الملتزمين، يجزم نحاس، ويلتقي في ذلك مع بعض زملائه الاقتصاديين الذين يرون في الشراكة «شكلاً من أشكال الخصخصة»، كما يقول نجيب عيسى، أو «عملية توسيع لميدان الخصخصة، توفر للقطاع الخاص استثمارات بضمانات حكومية في مجالات البنى التحتية»، كما يقول ألبير داغر.
عيسى: يمكن الدولة أن توفر الموارد اللازمة عبر إصلاح النظام الضريبي

في غياب «إدارة حكومية كفوءة وفعالة، تصبح العملية (الشراكة) نهباً بتسويغ من الدولة، ضمن نمط رأسمالية الأصحاب»، يؤكد داغر، مشدداً على ضرورة «الإصلاح السياسي والإداري قبل إقرار مشاريع إضافية».
«يتلقى المهتمون طرح الشراكة مع القطاع الخاص بسلبية لأنهم شهدوا تجارب خصخصة كلها نهب، ويرون في بعض مواد الدليل المذكور مقدمة وتسويغاً مسبقاً لهذا النهب»، يتابع داغر، مشيراً إلى المادة 15 في «الدليل»، التي تنص على حق «شركة المشروع الطلب إلى الشخص العام أن يستملك عقارات لتشغلها» الشركة، ويستعيد تجربة «سوليدير» في هذا السياق، حيث سجلت الدولة سابقة «مصادرة الأملاك الخاصة في وسط بيروت ونقل ملكيتها لشركة خاصة، باسم إعادة إعمار وسط المدينة». «لا ذكر لما يعني أن الدولة تحدد الأسعار» التي يجبيها المتعهد لحساب الدولة، يضيف داغر، منبّهاً من قدرة القطاع الخاص على استصدار التشريعات والقوانين «التي تعطيه ما يشاء من حقوق وامتيازات»، ويعطي مثالاً على ذلك «تجربة النيوليبرالية في أميركا، حيث كانت قدرة هؤلاء على بلورة نصوص وإقرارها من قبل الدولة مصدر أرباح هائلة». المادة 11 من «الدليل» مثلاً تنص على أن شركة المشروع لا تخضع لرقابة ديوان المحاسبة، «على أن تبقى أعمالها خاضعة لرقابة ديوان المحاسبة المؤخرة»، وتعفي الشركة «من موجب تعيين مفوض مراقبة إضافي» من المحكمة التجارية، وتعفي «رئيس مجلس الإدارة ــ المدير العام غير اللبناني من موجب الحصول على إجازة عمل»!
«كل إيديولوجيا وخطاب الخصخصة على مدى عقدين من الزمن، حرف الأنظار عن ضرورة إصلاح القطاع العام والإدارة الحكومية، وبرر أبلسة الدولة والسطو عليها من قبل النافذين»، يقول داغر، معلناً رفضه لمشروع «الشراكة» المطروح «رفضاً مبرماً، لأنه يأتي ليؤجّل الإصلاح الإداري، ويترك الإدارة على حالها، فيضع العربة أمام الحصان»، مؤكداً أن «الأساس تفعيل الإدارة العامة».

مروحة من الخيارات البديلة

يتبنّى نجيب عيسى المنطق نفسه، فيرى في مشروع الشراكة «في الوضع المهلهل للإدارة انتقالاً من مشكلة إلى أخرى»، مؤكداً الحاجة إلى «إصلاح الدولة» في المقام الأول. مسألة التمويل هي المسألة الأساس في إنشاء البنى التحتية، ما يطرح مروحة من الخيارات البديلة من الصيغة المقدمة. يمكن الدولة أن توفر الموارد اللازمة عبر إصلاح النظام الضريبي. فضريبة الدخل تمثّل 12 إلى 15% فقط من مجمل الضغط الضريبي، يقول عيسى، في حين تم تخفيض الضريبة على الشريحة العليا من الدخل من 32%، وهي نسبة هزيلة أصلاً، إلى 20%. كذلك يمكن الدولة أن تلجأ إلى القروض، «لكن بشروط محددة وبعد دراسة جدوى شاملة تعطي مردوداً يفوق التكاليف»، يقول عيسى، ويقترح كذلك بحث كيفية «وضع إطار قانوني لجلب القطاع المصرفي وموارده المالية الهائلة للمساهمة في التوظيف المباشر المنتج». الضريبة على المداخيل الريعية ليست فقط لجلب موارد مالية إضافية للخزينة، بل هي ضرورية لإعادة هيكلة الاقتصاد والحد من توجه التوظيفات إلى الريع، وتشجيع ذهابها إلى قطاعات الإنتاج الحقيقي التي تخلق فرص العمل الوافرة، يوضح عيسى، مشدداً على أن أصحاب المداخيل الريعية هم من يُفترض أن يتحمّلوا العبء الأكبر من الضريبة، «بما يتناسب مع المداخيل التي حصلوا عليها من المضاربات والعمل المصرفي».




«أفكار خاطئة عن الشراكة»

يفنّد دليل «المجلس الاعلى للخصخصة» عدداً ممّا يعتبره مؤلفوه «أفكاراً خاطئة عن الشراكة»، وأولاها أن الدولة قادرة على الاستدانة بكلفة أقل من تلك التي يستطيع القطاع الخاص الاستدانة بها. «هذه الحجة غير صحيحة»، لأنها لا تأخذ في الحسبان أن الدولة أقل كفاءة وأن مخاطر تجاوزها التكاليف وتأخر تنفيذها المشروع أكبر، وأن القطاع العام سيتحمل كلفة إضافية «نتيجة زيادة حجم ديونه السيادية»، فضلاً عن كلفة انتظار توافر التمويل اللازم، يقول الدليل!
«ليست الشراكة بالأمر الجديد في لبنان»، فـ«أول مشروع مشترك، وإن كان قد اتخذ تسمية الامتياز آنذاك، جرى تنفيذه عام 1870، وهو يتعلق بتعاقد السلطنة العثمانية مع مهندس سابق في «شركة الطريق بين بيروت والشام» لاستجرار مياه عذبة إلى مدينة بيروت لمدة 40 سنة»، إضافة إلى التعاقد مع شركة IBC لمعالجة النفايات في صيدا، ومع شركة «ليبان بوست» لخدمات البريد، وشركة «فال» لفحص ميكانيك السيارات.
لن تؤدي «الشراكة» إلى فقدان وظائف في القطاع العام، يقول الدليل، فـ«مسؤولية تقديم الخدمة في عقد الشراكة تبقى على عاتق القطاع العام، وبالتالي يحدد العقد ما ستؤول إليه أوضاع الموظفين الحاليين، إن وجدوا، من الانتقال للعمل لمصلحة الشريك الخاص أو أي عمل آخر»!
ليست الشراكة «خصخصة مقنعة»، يقول الدليل، إذ تبقى ملكية الأصول للقطاع العام الذي يتحمل المسؤولية تجاه عامة الناس ويحدد مواصفات الإنتاج كذلك، في حين يتقاسم القطاعان المخاطر، ويكون «اتجاه تدفق المال من العام إلى الخاص»، على العكس من الخصخصة!
لن تؤدي «الشراكة» إلى فقدان سيطرة الدولة على الكلفة والجودة، يجزم الدليل، فـ«نادراً ما تخضع المشاريع المنفذة من قبل القطاع العام لمتطلبات أداء مماثلة لما هي في عقود الشراكة»(!)، فضلاً عن أن «عقود الشراكة تبقي مسؤولية تقديم الخدمة على عاتق القطاع العام» الذي يُفترض أن يراقب تنفيذ العقد، رغم الإعفاءات الكثيرة من الضوابط القانونية التي ينص عليها المشروع!




القانون الفرنسي: لـ«الشراكة» شروط

تحفظ وزير العدل الأسبق إبراهيم نجار على مشروع القانون اللبناني لـ«الشراكة» الذي قدّمه المجلس الأعلى للخصخصة إلى مجلس الوزراء في شهر آب من عام 2010، وأرفق تحفظه بنصوص قانونية فرنسية تعرّف وتنظّم عقود «الشراكة». تُظهر المقارنة بين النصوص اللبنانية والفرنسية فرقاً جوهرياً في تعريف «الشراكة»؛ فتعريف الأخيرة في القانون الفرنسي هو أنها عقد إداري تقوم الدولة أو مؤسسة عامة بموجبه بتكليف طرف ثالث بأداء مهمة عامة محددة المدة، قد تتضمن بناء أو إعادة تأهيل وتشغيل وصيانة منشأة عامة، شرط أن تكون الأخيرة ضرورية لتوفير خدمة عامة حيوية، وأن يكون الشريك الخاص مستعداً للمساهمة في التمويل جزئياً أو كلياً، من دون أن يكون للأخير الحق بالمساهمة في رأسمال «شركة المشروع». على نحو أوضح، لا يجيز القانون الفرنسي عقود «الشراكة» إلا في حال لم يكن الشخص العام قادراً موضوعياً على تأمين الخدمة العامة الضرورية، أي إن لم تكن لديه القدرات التقنية أو التمويلية أو الإدارية أو اللوجستية على إنشاء مرفق عام لتقديم خدمة عامة لا غنى عنها، أو تفرضها أوضاع طارئة. كذلك لا يسوّغ القانون الفرنسي إبرام عقود «الشراكة» إلا في حال ثبت أن الصيغة تلك لها أفضلية على العقود العامة من نواح عديدة، لا تقتصر على كلفة التمويل.