في تجربة وادبيات حركات الثورة والتغيير (لينين خصوصاً) التي لا يزال بعضها راهناً وذا فائدة نظرية وعملية، إن الاضراب الجزئي، إذا أصبح عاماً، يتخذ طابعاً سياسياً وليس مطلبياً فقط. يصحّ ذلك على النقابة الواحدة والقطاع الواحد (على الصعيد الوطني)، فكيف إذا كان الأمر يتناول نقابات وقطاعات عدة في الوقت عينه. هذا هو بالضبط واقع «هيئة التنسيق النقابية» منذ أن تبلورت العلاقة، تباعاً، ما بين مكوناتها الى صيغة تنظيمية وبرنامج مطلبي («السلسلة»).
لقد حفّز هذا التحوّل عددٌ من الاسباب: الواقع المزري لجهة تجميد الرواتب وزيادة التضخم وعشوائية التشريع والتفاوت بين شرائح موظفي القطاع العام (تمييز بعضها كالمصرف المركزي ومصلحة الليطاني، ورواتب وعقود خيالية مع «خبراء» ومستشارين ومحاسيب... انطلقت مع الحريرية الاقتصادية منذ اوائل التسعينيات). حفّز ذلك، أخيراً، أيضاً الامعان في التمييز إلى درجة الامتيازات (نسبياً وبالمقارنة) للقضاة واساتذة الجامعة اللبنانية. كذلك حفّز تدهور وضع الاتحاد العمالي العام الى دور كلّي الهامشية وهو الذي كان، في بعض محطات مساهماته السابقة، فاعلاً وطليعياً ومعبِّراً عن مصالح المستخدمين والأجراء في القطاع الخاص، واحياناً العام.
لعبت القيادة التي توفرت لهيئة التنسيق دوراً تعبوياً مهماً. وهي قيادة واصلت تجربة ودوراً، وكانت شاهدة عليهما أو حتى مشاركة فيهما في النصف الاول من السبعينيات: يومها انطلق اكبر وأوسع تحرك مطلبي ديمقراطي نقابي وتعليمي وطلابي... في تاريخ لبنان. هو تحرك تخطى المدينة الى الريف وسقط خلاله العديد من الشهداء. دخل كثيرون السجون والمحاكم. تحقق بنتيجته الكثير من الانجازات التنظيمية والمطلبية (منها انشاء روابط واتحادات وإلغاء الصرف التعسفي...)
قطعت الحرب الاهلية المسار المذكور. ليس من المبالغة القول إنّ «الطغمة المالية»، آنذاك، قد استشعرت الخطر، وجنحت، بين أسباب أخرى، إلى العنف، عبر استخدام الاجهزة الامنية أو عبر انشاء الميليشيات واستعراضها في قلب العاصمة ولغرض «خدمة لبنان»!
كان التحرك المذكور (قبيل الحرب الأهلية) يحظى برؤية وبحاضنة سياسية وجبهوية. هذه الحاضنة خططت وأعدّت ونفذت، ثم ما لبثت أن أصبحت أقوى من خلال انطلاق التحركات والاحتجاجات وبإنشاء الصيغ التنظيمية الضرورية، ثم بتحقيق المكاسب والنجاحات. انطلقت آنذاك عملية تفاعلية شديدة الخصوبة أطلقت، بدورها، دينامية تغيير جدي، بل جذري في لبنان، عبر عنه نشوء «الحركة الوطنية اللبنانية» وبرنامجها المتمحور حول ضرورة احداث إصلاح كبير، سياسي واقتصادي، في لبنان (لا نتناول هنا كل تجربة «الحركة الوطنية»).
بالمقارنة، عبّأ التحرك الراهن الذي قادته «هيئة التنسيق» مشاركة غير مسبوقة من قبل القطاعات المنضوبة في عضوية الهيئة. خلال حوالى ثلاث سنوات، حافظ التحرك على زخم ومشاركة مدهشين. ولّد ذلك آمالاً عريضة بتصحيح جذري للأجور والتعوضات تجسد في «السلسلة». الفساد والهدر والنهب و«البطر» والمحاصصة وسوء استخدام السلطة والمال العام... استفزت وأغرت جميعها، بتحصيل بعض الحقوق وبتوزيع اكثر عدلاً وانصافاً للثروة...
تدحرج هذا الأمر، كما أسلفنا، إلى تحرك سياسي في اطار نقابي، وليس مجرد تحرك مطلبي محدود ومحصور ومعزول هنا أو هناك بحيث يمكن تجاهله أو يسهل القضاء عليه او رشوة فريق منه، بهذه الطريقة أو تلك.
يُسجل لهذا التحرك ولقيادته (خصوصاً منها المتحررة كلياً من الاعتبارات والمؤثرات التقليدية)، أنها حققت نجاحاً بكراً ومبكراً لا ينتظر اقرار السلسلة أو بعض السلسلة: لقد كشفت الكثير من مكامن الخلل في النظام السياسي الاقتصادي اللبناني. وهو خلل، يتخطى مجرد النهب والهدر والفساد، الى الاسهام في تعطيل قيام الدولة ومؤسساتها، والى تحويلها بقرة حلوب تغذي الدويلات الفئوية بغطاء مذهبي وطائفي. وتغطي كل اشكال التبعية والارتهان، وكذلك ادعاءات التمسك بالسيادة الوطنية، أو الحرص على المصالح العليا للدولة، أو تقديس «الصيغة الفريدة» للتعايش بين الطوائف (لطمس فداحة التباينات الاجتماعية الهائلة التي تجعل لبنان «جنة» التسيب وحرية السرقة المكرسة بقانون السرية المصرفية وسواه)...
النجاح السياسي المذكور يكاد لا يرتبط، كما أشرنا، بالنجاح في اقرار السلسلة أو بعض منها، وإن كان، بالطبع، يتكرس ويتعزز بتحقيق ذلك. بل لا ينبغي أبداً التقليل من خطورة وجود اتجاه خبيث لدى تحالف معظم اصحاب المال والسلطة، يرمي الى دفع هيئة التنسيق، إلى الفشل الكامل: من اجل عدم تكرار التجربة في ظروف اخرى وقطاعات اخرى ومطالب اخرى، ومن أجل إبقاء القطاع العام عموماً والتعليم الرسمي خصوصاً في حالة ضعف وتهميش لمصلحة القطاع الخاص والدويلات الفئوية.
يسجل هذا النجاح لهيئة التنسيق رغم افتقارها الى الحاضنة السياسية، والى الدعم والتضامن من قبل القطاعات النقابية، ومن قبل حركة طلابية ينبغي أن تكون معنية مباشرة بالتحرك، وخصوصاً في التعليم الثانوي... هذا فيما كان الاستنفار المضاد كاملاً! لقد أعمت الغشاوة المذهبية والطائفية والفئوية عموماً (وصولاً إلى التطرف والتكفير) الأبصار. وها هي تنقشع الآن ولو جزئياً مفسحة أمام بدء الأخذ بخيارات حرة، خلافاً لذهنية التلقي السلبي وذهنية الانقياد الأعمى و غريزة القطيع.
وكشفت التحركات ايضاً هامشية وبلادة وعجز احزاب «التغيير»، والكثير من ديماغوجية مدعي «العطف» على الفقراء وعلى المحرومين وعلى ذوي الحاجة والدخل المحدود... بل يجب القول إنّه اذا كانت تحركات السبعينيات قد انطلقت (في الجانب التنظيمي) من مبادرات أحزاب التغيير (وأساسها الحزب الشيوعي اللبناني)، فإن تحركات اليوم، على العكس، هي التي يجب أن تدفع باتجاه اطلاق دينامية حزبية جديدة، تستطيع أن تؤمن البرامج والاطر السياسية والاجتماعية والجبهوية لعملية التغيير الواسعة التي لن يكون من دونها أمل بإنقاذ لبنان: لبنان الدولة والسياسة والعدالة والمؤسسات وحتى الوجود نفسه! طبيعي أن المسؤولية الأساسية بشأن هذه المهمة لا تقع على عاتق هيئة التنسيق المرشحة للتعرض للإضافي من الضغوط في المرحلة المقبلة.
يجب ان تبذل كل الجهود من اجل تحقيق مكاسب مطلبية لتعزيز المكسب السياسي المذكور، ولتحقيق وعود اكبر بنقل مستوى الصراع في لبنان من نطاقه المذهبي والطائفي المزور الى نطاقه الاجتماعي – السياسي الطبيعي.
مثل ذلك هو الانجاز الجديد بعد انجازات الشعب اللبناني العديدة في حقول المقاومة والتحرير والتشبث بالحرية والتنوع... السليم والإيجابي.
* كاتب وسياسي لبناني