عندما يجتمع أهل القانون، من قضاة ومحامين وحقوقيين، ثم يخرجون بنتيجة مفادها أن قانون الإيجارات الجديد «مُعقّد» و«صعب الفهم فضلاً عن التطبيق»... فهذا يعني أننا أمام قانون «سُلق سلقاً» وتم تهريبه عبر «مجلس الأمة» في ليل مُريب.قبل ثلاثة أيام، نظّمت نقابة المحامين ندوة في بيت المحامي ـــ بيروت، عنوانها: «قانون الإيجارات الجديد. شرح ومناقشة». يمكن القول، براحة ضمير، إن أكثر الذين حضروا تلك الندوة وسمعوا الـ«شرح» والـ«مناقشة»...

غادروا من دون أن يفهموا، بعمق، طبيعة القانون المذكور. نعم، كان هناك نقاش بين المحامين والقضاة والخبراء أنفسهم، لكن كان واضحاً أن عدداً لا بأس به منهم لم يستطع فهم القانون أصلاً، في الشكل قبل المضمون! إلى هذا الحد نحن أمام نص قانوني شائك، وفيه الكثير من الـ«تخبيص» و«الخفّة» في التشريع. عندما يعجز أهل القانون عن شرح قانون، يُقال إن النواب درسوه على مدى سنوات طوال، فلا يعود مستغرباً إن قال أحد المواطنين إنه لم يفهم من هذا القانون شيئاً. ربما يُفهم هذا في قوانين أخرى لا تكون على تماس مباشر مع حياة الناس، عندها يقال نعم إن القانون لأهل القانون. لكن عندما يكون الأمر يتعلق بقانون سوف «يُشرّد» عشرات آلاف العائلات في الشوارع، وعندما يعني أن هذا القانون (الفضيحة) سوف يؤدي إلى كارثة اجتماعية، إن جرى تطبيقه، وأنه يمس على نحو لا يقبل الشك بالأمن الاجتماعي للمواطنين، فهنا نكون أمام قضية ــ جريمة تستدعي إعلان حالة الطوارئ اجتماعياً... قبل الانفجار الكبير.
أبدع «نواب الأمة»
في خلق قانون «مسخ» إلى درجة أنه أصاب القاضي بالدوار
الندوة التي أدارها عضو مجلس نقابة المحامين، مُقرر محاضرات التدرّج فادي بركات، تحدّث فيها قاضي محكمة الإيجارات هاني البرشا والمحامي الخبير في القانون المذكور منير الحداد. الأخير دعا مجلس النواب إلى تأمين التمويل للصندوق المنصوص عليه في المادة الثالثة من القانون، إن استطاع التمويل، لافتاً إلى أن المادة المذكورة «تضرب مبدأ المساواة بين المواطنين أمام القانون». المسألة ليست «مزحة» إطلاقاً. المحامي الحداد يتحدث عن مبدأ المساواة، وهذا مبدأ كان يفترض بالنواب أن ينتبهوا إلى أنه يسمو على كل قانون آخر. انتقد الحداد المادة العاشرة من القانون أيضاً، التي «من شأنها انسحاب بدل المثل على نسبة عالية من المستأجرين». كذلك اعترض على القرارات التي تصدرها اللجنة المنوط بها النظر في المساهمة المالية، قائلاً: «يجب ألا تكون قراراتها نهائية وغير قابلة للاعتراض».
أما المحامي بركات، وباسم نقابة المحامين، فأخذ على لجنة الإدارة والعدل عدم أخذها بالملاحظات التي قدمتها نقابة المحامين إليها، والتي «هدفت إلى تلافي الإشكالات، على الصعيدين التشريعي والاجتماعي، وبخاصة لجهة تحديد معيار استرداد المأجور الذي يجب أن ينهض على ركيزتين اثنتين: حق المالك في استرداد المأجور وحق المستأجر في السكن». وحول الجدل الآخذ بالاتساع، أخيراً، بين الحق في الملكية في مقابل الحق في السكن، قال بركات: «إن القانون الذي كان يحلم به المواطن (المستأجر كما المالك) هو الذي يعيد للمالك الحق في التصرف بملكه، وفقاً للمادة 15 من الدستور، ويعطي في المقابل المستأجر الحق في السكن والعيش الكريم، كما نصت شرعة حقوق الانسان العالمية». حسناً، من المسؤول، الآن، عن الخلل الحاصل جراء قانون الإيجارات الجديد، وما العمل؟ يجيب بركات: «الدولة هي المسؤولة الأولى عن الحالة التي وصلنا إليها. ومن واجبها أن تؤمن للمالك والمستأجر غير المقتدرين مادياً حق الاسترداد وحق السكن، فتتأمن عندئذ العدالة الاجتماعية، من منطلق أن المؤازرة الانسانية والاجتماعية هي التي تبقي المجتمعات قائمة ومستمرة... فأعظم الحضارات ما انهارت إلا عندما انهارت العدالة الاجتماعية. أنا أحمّل الدولة، وليس المالك أو المستأجر، مسؤولية التقصير في الخروج من الحالة الاستثنائية المخالفة للدستور». إذاً، إنها «العدالة الاجتماعية» التي يتحدث عنها الجميع في الآونة الأخيرة، من دون أن يخرج إلى حيّز الواقع ما يُجسد هذه العدالة، على أكثر من صعيد حقوقي ومطلبي، وربما يكون قانون الإيجارات الجديد أبرز هذه النماذج. نموذج عن «الانفصام» بين حاجة الناس الفعلية وبين «الخفة» التي باتت تطبع النواب في عملهم التشريعي.وبعيداً عن آراء المحامين الخبراء، برز رأي للقاضي هاني البرشا، العامل حالياً في محكمة الإيجارات. لقد أبدع «نواب الأمة» في خلق قانون «مسخ» إلى درجة أنه أصاب القاضي المختص بالدوار، وبدا مدهوشاً لعدم قدرته على فهم «التناقضات» الصريحة في نص القانون نفسه. تحدث القاضي عن العديد من المواد في القانون الجديد، وأظهر ما فيها من عيوب تؤدي إلى التضارب والضياع (نص الكلمة القانونية للقاضي البرشا منشورة في عدد «الأخبار» اليوم).
ختم القاضي كلمته بإشارة إلى من يعنيهم الأمر، قائلاً: «إن القاضي هو المؤتمن على تطبيق القانون عندما يكون واضحاً، إنما في الحالة التي ينتابه الغموض فعليه اللجوء إلى التفسير والاجتهاد، إلا أن الصعوبة الكبيرة هنا تنشأ عندما ينتاب القانون تضارب وتناقض في أحكامه. هنا لا يمكن عندها للاجتهاد، الذي تنحصر مهمته في جعل القانون أكثر عدالة أو تطابقاً مع الأوضاع الاجتماعية، أن يوفّق بين النصوص المتناقضة. لذلك كان لزاماً على المشترع أن يوضح هذا التناقض الحاصل بين النصوص، توصلاً لتطبيقه من قبل القضاء على نحو عادل».
حضر ندوة نقابة المحامين، التي أثير فيها كل هذا النقاش، ممثلون عن تجمع المالكين وآخرون عن تجمع المستأجرين. دارت بينهم سجالات حادة، كان بعضها ينتهي بالتصفيق من المؤيدين، وبعضها الآخر ينتهي بمشادات كلامية، لكن في المجمل بقي المشهد ضمن الإطار السلمي. المراقب لتلك النقاشات، والحدة التي حملتها، تجعله يتوقع أن هذا المشهد يمكن أن يخرج ذات يوم، وربما قريباً، عن إطار الندوات والمحاضرات والقاعات. بدا بعض هؤلاء الغاضبين، من الطرفين، على استعداد لإخراج الصراع إلى الشارع، والحديث هنا عمّا هو أبعد من تظاهرات واحتجاجات، إذ لن يكون مستغرباً حصول صدامات عنيفة قريباً بين طرفين، كل منهما يجد نفسه صاحب حق، في مسألة تمس حياته وعائلته. يومذاك، لا سمح الله، ستكون الدولة هي «المتفرج الأكبر» على ما يحصل. سيغيب النواب عن السمع، كعادتهم، بعدما ارتكبوا «جريمة» فجّرت في المجتمع قنبلة حقوقية ليس بالإمكان احتمال تداعياتها. ستكون الدولة عندها، بامتياز، دولة «فرّق تسد».