ليست أزمة «الرتب والرواتب» جديدة في لبنان، وقد تفاقمت مع خسارة لبنان لدوره الاقتصادي في محيطه، مع متغيرات المحيط، ودخوله في حرب مديدة وتعرضه للاجتياح الأميركي الإسرائيلي. وعملت الطبقة الحاكمة، وخاصة مع الحريري، على إعادة اقتسام الناتج المحلي القائم لمصلحة رؤوس الأموال، فتدنت حصة الرواتب والأجور إلى ما دون 25%، في الوقت الذي يجب ألّا تقل فيه عن 70% منها، وسطت أيضاً على مدخرات الأجيال السابقة.
وتتابع السطو على الأجيال القادمة عبر آليات الخصخصة ومراكمة الدين العام. كان المدير المميز في وزارة المالية، عبد الجليل ناصر، يقول إن ضريبة الدخل على الشركات والمؤسسات تقسم إلى ثلاثة أقسام متساوية: ثلث للخزينة، ثلث لموظفي المالية، وثلث يعود إلى الشركة المعنية. كان ذلك قبل عهد الحريري. ومع تعطيل أجهزة المحاسبة والمراقبة كافة، تدنى نصيب الخزينة من مستحقات الضرائب المباشرة. ويؤدي قانون السرية المصرفية، البقرة المقدسة لدى أصحاب السلطة، دوراً أساسياً في آليات التهرب الضرائبي. بل إن الهدف من هذا القانون، كان تمكين الأثرياء من هذا التهرب، ومنع نظام إنشاء «لجنة الرقابة على المصارف»، لمنع هذه اللجنة وموظفيها من البحث أو التدقيق في الضرائب عند قيامهم بمهمات تفتيشية في المصارف، وبقيت السرية المصرفية تحد من قدرة وزارة المالية على جباية الضرائب المباشرة، في الوقت الذي رُفعت فيه هذه السرية، بطلب من السلطات الأميركية، لتمكينها من تجفيف تمويل «الإرهاب» وجباية حقوق الخزينة الأميركية في لبنان من مواطنيها ومن يحمل البطاقة الخضراء الأميركية (Green Card). وسُنّت قوانين جديدة لإعفاء الأثرياء من ضرائب الإرث والمتاجرة بالأسهم والعقارات، عبر إنشاء شركات لهذه الغاية، ولكن إنشاء مثل هذه الشركات بحاجة إلى «قرار من مجلس الوزراء»، وبالتالي حُصر حق هذا التهرب من الضريبة بالقادرين على الاستحصال على هذا «القرار».
وأدى مصرف لبنان، منذ سنة 1993، دوراً أساسياً في نهب الخزينة لمصلحة المصارف وأصحاب الثروات عبر آليات عدة أهمها:
1ــ إدارة الدين العام، ومعدلات الفوائد على سندات الخزينة. لا تحدد آليات السوق معدلات هذه الفوائد، بل الاتفاقات الرضائية بين جمعية المصارف ووزير المالية ومصرف لبنان. وثم تحديد معدلات مرتفعة جداً للفوائد لزيادة أرباح المصارف، انسجاماً مع قول جماعة الحريري إن قوة اقتصاد لبنان تتمثل بقوة قطاعه المصرفي. وبعد ربط سعر صرف الليرة بالدولار (Pegging) انتهت عملياً مخاطر سعر صرف الليرة، وكان على هيكلية الفوائد على الليرة الاقتراب من هيكلية الفوائد على الدولار. لكن الفائدة الحقيقية على الليرة استمرت مرتفعة جداً، وفي حدود 18% لسنوات عديدة، في الوقت الذي كان لبنان بحاجة إلى خفضها إلى حدود «الصفر» كما تفعل الدول التي تستهدف معدلات مرتفعة من التنمية. وبعد تنامي المعارضة لمعدلات الفوائد المرتفعة، التي أضرت بقطاعات الإنتاج السلعي، وراكمت فوائض كثيرة في حسابات الخزينة لدى مصرف لبنان، كان اللجوء إلى آلية جديدة، هي شهادات الإيداع لنهب حقوق الخزينة من أرباح مصرف لبنان، البالغة 80% من هذه الأرباح.
2 ـ كان مصرف لبنان، وما زال، يكتتب بسندات الخزينة، ويحول إلى وزارة المالية أرباحاً دفترية «غير محققة» نتيجة ارتفاع أسعار الذهب. (وهذا مخالف لكل القوانين والمنطق). وتولد هذه السياسة فوائض كبيرة في السيولة (نتيجة المضاعف multiplyer الذي يمكن أن يبلغ 4) يعمد مصرف لبنان إلى سحبها من السوق (لإبقاء الفوائد على سندات الخزينة مرتفعة جداً)، بفوائد تساوي الفوائد على سندات الخزينة زائدة واحداً. وبذلك، تحوَّل أرباح مصرف لبنان إلى المصارف، التي تشكل حقوق الخزينة العامة 80% منها.
3ــ قبول ودائع بالدولار للمصارف في مصرف لبنان. فبعد استنزاف موجودات مصرف لبنان من العملات الأجنبية، عمد المصرف المركزي إلى استقطاب ودائع بالدولار من المصارف التجارية، كاحتياجات لهذه المصارف، عبر دفع فوائد أكثر ارتفاعاً مما يمكن المصارف أن تناله في الخارج، وبمعدلات تزيد نقطة واحدة على معدلات الفوائد على ودائع مصرف لبنان بالعملات الأجنبية في الخارج، متكبداً خسارة واحد في المئة على هذه الأموال لمصلحة المصارف التجارية. بجانب ذلك، أخذ مصرف لبنان يعلن عن موجودات لديه مرتفعة بالعملات الأجنبية دون أن يذكر أن هذه الأموال ليست له، بل هي للمصارف التجارية ولمؤسسات وصناديق عربية لها ودائع لدى مصرف لبنان.
إن أعباء الدين العام على الخزينة، من فوائد الدين، وتحويلات أرباح مصرف لبنان إلى المصارف تبلغ نحو ستة مليارات دولار سنوياً، وإذا أضفنا إلى هذه المبالغ تهرّب الأثرياء من الضرائب، بطرق قانونية وغير قانونية، فربما وصلت هذه المبالغ إلى حدود عشرة مليارات دولار سنوياً، يجري تحويلها إلى أصحاب السلطة في لبنان.
* باحث إقتصادي ومدير سابق
في مصرف لبنان