«كمدخل لفهم اللامساواة في لبنان»، يدرس فواز طرابلسي في دراسة له صدرت اخيرا بعنوان «الطبقات الإجتماعية في لبنان: إثبات وجود» علاقات «الطبقات الإجتماعية في لبنان»، بوصفها علاقات «حركية صراعية، قوامها مبدآ السيطرة والإستغلال»، حيث تتداخل البنى الطبقية والطائفية. اهمية هذه الدراسة، انها الاولى من نوعها في لبنان منذ نهاية الحرب، حاول عبرها البحث عن معالم الطبقات الاجتماعية وتوصيفها في اطار النظام الطائفي. وقدّم معطيات تاريخية مهمّة عن الطبيعة الطبقية لتطور هذا النظام «منذ أن نشأت البرجوازية اللبنانية في كنف السلطة السياسية للإنتداب الفرنسي، وأسست جمهوريتها مع الإستقلال بالإستيلاء على الدولة وتسخير سياساتها وقوانينها وفقاً لمصالحها المالية ــــ التجارية».
يقدّم طرابلسي صورة واضحة عن الطبقات الإجتماعية، وينتقد الوعي الجزئي الذي «يفسر السياسة، بعد الجهد، بالسياسة»، فيفصل بين الإقتصادي والسياسي، وبين الطائفي والطبقي. الا ان المشكلة الاساسية التي تواجهها الدراسة، انها، كالدراسات الاخرى المماثلة، تصطدم بقلّة المعلومات والاحصاءات التي تتناول توزّع الثروة في لبنان وتركّز ملكية الاصول، ولا سيما العقارات. الا ان طرابلسي، سعى للتفلت من هذا النقص باستناده الى كم كبير من الدراسات والابحاث والوثائق والتقارير والتحقيقات الصحافية، بمساعدة الزميلة رشا ابو زكي واستاذة الانثروبولوجيا ميسون سكرية. ففي سعيه، مثلاً، الى تحديد معالم الأوليغارشيا اللبنانية المعاصرة، يستند طرابلسي الى تقرير بعنوان «النظام المصرفي اللبناني: البدائل المالية لنظام سياسي»، لمؤلفه كليمانت هنري مور، يستنتج منه أن المصارف «شكلت مكان الإلتقاء بين الأسر المالية والأسر السياسية، حيث أن ربع الأسماء الواردة في أي لائحة للأخيرين هم من المرتبطين بالقطاع المصرفي»، مضيفاً أن «ما لم يقله مور هو أن النظام المصرفي صار بعد الحرب محور الحياة الإقتصادية للبلد، ودائن الدولة وقائد عملية الإعمار، والمضارب الرئيسي على مديونية الدولة، والموجه الرئيسي لسياسة دولة هو دائنها». يشير طرابلسي إلى غلبة «الطابع العائلي» على المصارف اللبنانية، «وتشابك المصالح بين أسر الأوليغارشية على نحو لافت خلال توظيفاتها ومساهماتها المصرفية»، والأهم «إستهتار شلة المصرفيين» هذه بمصالح اللبنانيين، والذي عبر عنه حاكم مصرف لبنان رياض سلامة في تصريح لقناة «العربية»، «طمأن فيه إلى أن أرباح القطاع المصرفي للعام 2013 ستنمو بنسبة 3 إلى 4%، تدليلاً على صحة الإقتصاد»، في حين تشهد كافة قطاعات الإقتصاد الأخرى تدهوراً غير مسبوق.

تركّز الثروة لدى 8900 شخص

«تتركز 48% على الأقل من ثروة لبنان الخاصة في أيدي 8900 نسمة، أي ما لا يزيد عن 0.3% من السكان البالغين، وهي الفئة التي يزيد دخل أفرادها عن مليون دولار للفرد. وهذا يعني أن سائر البلد، أي 99.7% من السكان، يملكون أقل من 52% من الثروة التي قدرها البنك السويسري بـ91 مليار دولار»، ينقل طرابلسي هذه الارقام عن عدد تشرين أول 2013 من مجلة Executive، التي استقت أرقامها من تقرير «بيانات عن الثروة الكونية للعام 2013» الصادر عن بنك «كريدي سويس». ويشير التقرير نفسه إلى أن مقياس «جيني» لللامساواة في توزيع الثروات هو 86.3 في لبنان، (يتدرج المقياس من صفر، أي مساواة كاملة، إلى100، أي لامساواة كاملة) ليحتل المركز «الرابع عالمياً من حيث اللامساواة في توزيع الثروات، بعد روسيا وأوكرانيا وكازاخستان»!
يشير طرابلسي إلى تقرير للإسكوا يقدّر عدد الفقراء في لبنان بـ28% من السكان، 25% منهم يعانون الفقر المدقع، «حيث يقل دخل الأسرة المكونة من خمسة أشخاص عن 306 دولارات شهرياً، فيما يعيش الـ75% الباقون من السكان ضمن خط الفقر المطلق، إذ يقل دخل الأسرة عن 681 دولاراً»! (انطوان حداد، «الفقر في لبنان »، الإسكوا، 4 كانون الثاني 1996)، كما يشير إلى إستطلاع للرأي أجرته شركة «ماء ـــ داتا»، حيث صرّح 48% من المستطلعة آراؤهم أنهم يعتبرون أنفسهم فقراء، وقال 11% منهم إنهم جائعون، و41% إنهم متوسطو الحال، و0.3% إنهم أغنياء. كما اعترف 52% من هؤلاء بأنهم لجأوا للإستدانة، و34% بأنهم باعوا حلي نسائهم، و10% باعوا الأراضي لسد الديون أو الإحتياجات المادية، بينما صرّح 10% منهم فقط بأنهم يدخرون! (ماء ـــ داتا، «استقصاء عن الفقر»، النهار، 14 كانون الاول 1996)يرفض طرابلسي دراسة الفقر بمعزل عن دراسة مسببه ووجهه الآخر، أي الغنى، وينتقد التسطيح والتعمية في تصوير الطبقات الإجتماعية وفق «المنهج الهرمي الذي يرصف الطبقات كفئات دخل مرصوفة بعضها فوق بعض»، فيعتمد «المنهج العلائقي الذي ينطلق من أنه لا طبقات مجردة، بل بشر تربطهم علاقات إجتماعية هي المدخل لفهم اللامساواة في ما بينهم»، مستشهداً بقول الإمام علي بن أبي طالب، «ما حُرم فقيرٌ إلا بما مُتّع به غني»، للدلالة على «حركية وصراعية» المنهج العلائقي، «وقوامه مبدآ السيطرة والإستغلال». يسخر طرابلسي من خطاب «معالجة الفقر باعتباره آفة مطلوباً القضاء عليها، لا بما هو تعبير عن اختلالات في البنية الإجتماعية يجب تصحيحها، ونتاج سياسات إقتصادية معينة»، تفرضها الـ«أوليغارشية»، أي حكم الطبقة المسيطرة على الإقتصاد، والتي تتصف «بطابعها العائلي، وبنسبة الإمتيازات والإعفاءات القانونية التي تتمتع بها». ويعجب طرابلسي من «درجة السيطرة والإستئثار الإحتكاريين التي مارستها تلك الأسر على إقتصاد البلاد، وتحويلها القوانين لخدمة نظامها، خصوصاً إذا ما قورنت بالإدعاءات الليبرالية لجمهورية التجار».
تتجلى السيطرة الإحتكارية لتلك العائلات في «التركز الشديد لرأس المال في المجالات الحيوية من الإقتصاد»، يقول طرابلسي، إذ «تستأثر خمسة مصارف بالحصة الأكبر من السوق المالي، وتتصرف 2% من الحسابات المصرفية بـ70% من إجمالي الودائع. وقد توصلت دراسة لـ7402 مؤسسة في 288 سوق محلية إلى أن الأسواق اللبنانية التي «تنعم باقتصاد السوق والمبادرة الفردية والحرية التنافسية»، إنما تعاني «إحتكار القلة» oligopoly، إذ يفيد الإقتصادي إيلي يشوعي بأن ألفاً من أصل 25 ألف مستورد يستوردون 90% من مجموع المستوردات اللبنانية (إيلي يشوعي، السفير، ١٩ / ٧/ ٢٠٠٤)؛ فيتحكم الإحتكار المقونن كما في الوكالات الحصرية أو الممارَس كأمر واقع، بالطحين والمحروقات والأدوية، دون استثناء الإحتكار الصناعي، كما في الترابة مثلاً».

معالم الطبقات الإجتماعية

عمّقت سياسات حكومات ما بعد الطائف الإستقطاب الإجتماعي، ويمكن ضبط بعض آثار هذه السياسات بين عامي 1992 و1999 بالآتي: «إرتفع دخل الطبقة العليا بمعدل 4.8% سنوياً، بينما تراجع دخل الطبقة الوسطى بمعدل 8.4%، وتراجع دخل الطبقة الدنيا بمعدل 3.6% سنوياً، وتزايدت نسبة الأسر الفقيرة بنسبة 35%، وانخفض الأجر الفعلي بنسبة تراكمية تبلغ 30%، وضمرت التقديمات الإجتماعية والصحية، حيث لا أكثر من 50% من اللبنانيين يتمتعون بضمان صحي. كما تدهورت شروط السكن، حيث 46% من اللبنانيين يعيشون في بيوت مكتظة (4.8 أفراد في الغرفة الواحدة)، كما تزايد انتقال التلامذة من التعليم الخاص إلى العام، لانعدام القدرة على تحمل عبء الأقساط، وزادت البطالة والبطالة المقنعة عن 30% من القوة العاملة»، بحسب طرابلسي، الذي يتناول السياسة الضريبية كإحدى السياسات التي نمّت التفاوت الطبقي، مذكراً بمشروع «الإصلاح الضريبي» الذي تقدم به الرئيس رفيق الحريري عام 1994، والذي «خفض التكليف الضريبي على أرباح الشركات الكبرى من 40% إلى 10% بصورة مقطوعة وشاملة، فيما أبقى على الضريبة على الأجور والرواتب المقتطعة عند المصدر»، ورفع الرسوم والضرائب على الإستهلاك. ما هذه «إلا المظاهر المرافقة لإعادة تموضع الثروة إلى أعلى، حيث 80% من الأسر تتمكن من 40% من المداخيل، و20% (من الأسر تتمكن) من 60%، وهي ظاهرة لم يستطع حتى البنك الدولي تحملها، فنصح حبيب شحاته، نائب مدير البنك الدولي، برفع الضريبة على أرباح الشركات، فلم تستجب له الحكومة»، يقول طرابلسي.
شكلت المصارف مكان الإلتقاء بين الأسر المالية والأسر السياسية
الطبقات الوسطى «بيئة الحراك الإجتماعي بامتياز»، يقول طرابلسي، إذ «تستقبل من منحتهم الحرب أو الهجرة أو أموال الإغتراب فرص الإرتقاء إلى صفوفها، وتودّع مَن لم يعودوا يتحملون غلاء المعيشة، أو الباحثين عن العمل أو تحسين شروطهم المعيشية في الخارج». تدهورت أوضاع الطبقة الوسطى بسبب تدني الريوع والإيجارات على الملكيات الصغيرة، وتقلص دور التعليم في تجديدها، وخصوصاً تدهور التعليم الرسمي، وتقلص خدمات الرعاية الإجتماعية والصحية العامة، خصوصاً مع نمو شركات التأمين الخاصة على حساب الضمان الإجتماعي»، ولفت طرابلسي إلى «الإستنزاف الكبير لمداخيلها بسبب الجموح الإستهلاكي المحموم الذي طغى عليها في العقدين الأخيرين من الزمن».
غير أن طرابلسي «يجازف» بالقول، «بناءً على المعاينة والمطالعة لا أكثر، بأن حالات الإنهيار الجمعية إلى مصاف العمل اليدوي من مواقع الطبقات المتوسطة قليلة ونادرة، بسبب الدور الذي يلعبه المصرف المركزي في إقناع المصارف بتأجيل الديون المستحقة على العاجزين عن التسديد، ولأن السلوك المعتاد في حال تعسر الأوضاع المعيشية أو الإفلاس هو الهجرة والعمل في الخارج بديلاً من الحراك التنازلي نحو امتهان العمل اليدوي، أو إرتضاء الإنتقال من العمل الحر أو رب عمل إلى الوظيفة، وتفضيل العمل اليدوي أو المأجور في الخارج عليهما في الداخل، لاعتبارات العيب والدونية».
أما القوى العاملة بأجر، فـ «تقلص حجمها العددي بسبب الهجرة، وخصوصاً في الصناعة والزراعة، والتدهور المتزايد في مستوى معيشتها عموماً في لبنان بعد الحرب. وأبرز ما ينبئ بنمو الإستقطاب الطبقي في ظل الإجراءات النيوليبرالية المنفذة من قبل السلطة الطبقية هو تجميد الأجور والحد الأدنى للأجور بين عامَي 1997 و2012، دون تجميد الأسعار التي ارتفعت بنسبة تجاوزت 115% في نهاية 2012. والدليل على انقلاب موازين القوى الطبقية بين العاملين بالأجر والذين يعيشون على الربح والريع، هو تدهور حصة الأجور من الناتج المحلي من 35% عام 1997 إلى 25% عام 2012، رغم زيادة الناتج المحلي بنسبة 50%، وزيادة الإنتاجية بنسبة 75%، علماً أن حصة الأجور من الناتج المحلي قبل الحرب كانت بحدود 55%»، يقول طرابلسي، مستشهداً برئيس دائرة الإقتصاد في الجامعة اللبنانية ــــ الأميركية، غسان ديبة، الذي قرأ في تلك المعطيات «تحويل 30 مليار دولار من الأجور ومن عوائد العمل إلى عوائد رأس المال خلال 15 سنة»!

الطوائف في البنية الطبقية



يقول فواز طرابلسي في دراسته «الطبقات الاجتماعية في لبنان: اثبات وجود»، ان الترابط كان عضوياً بين الطائفي والطبقي في نظام المقاطعجية في جبل لبنان منذ ما قبل القرن التاسع عشر. «كان الخاصة من حكام جبل لبنان ينتمون إلى الأسر المقاطعجية الدرزية (خلا أسرتين أو ثلاث من الموارنة)، وكان العامة، على اختلاف مهنهم ومستوى معيشتهم، من تجار ومرابين وحرفيين وفلاحين وعمال، كانوا من المسيحيين في أكثريتهم». غير أن «الإرتباط المبكر لفئات من الجماعة المسيحية بالإختراق الرأسمالي للساحل وجبل لبنان، من خلال إقتصاد الحرير، وأسبقية تحصيل العلم من خلال المدارس الدينية الأهلية ومدارس الإرساليات الإجنبية»، غيرت موازين القوى الإجتماعيةــــ الإقتصادية، فرغم «الإنتصار العسكري للجماعة الدرزية» على «الجماعة المارونية» في حرب 1860 التي انتهت باجتياح عسكري فرنسي للجبل وشريطه الساحلي، «سارت (الجماعة الدرزية) إلى الإنحدار» بفعل «التطور السياسي والإجتماعي والثقافي المتفاوت» الناتج عن «الإمتيازات المارونية-المسيحية، والحرمانات لسائر الطوائف» تحت حراب الإحتلال الفرنسي، فكانت المواقع الأولى في السلطة و«في القطاع الأكثر إدراراً للربح في الإقتصاد، الخدمات والتجارة والمال»، فضلاً عن الصناعة والسياحة، كانت إمتيازاً للمسيحيين. «السياسة هي ميدان الصراع للإستحواذ على الفائض الإجتماعي، تخوضه الجماعات الإثنية والمناطقية والطائفية والقبلية، والطبقات الإجتماعية في آن معاً، وهو صراع يدور في الدولة كما في المجتمع، وهذا معنى الإعتراف بأن البنية المجتمعية اللبنانية تتضمن بنية طبقية وبنية طائفية» في الوقت عينه، حيث يعتمد «إعادة إنتاج التمييز والإستغلال الطبقيين على الإنتماء الإجتماعي (المذهبي تحديداً) للممسكين بالسلطة السياسية».
السياسة هي
ميدان الصراع للإستحواذ على
الفائض الإجتماعي

كرّس إتفاق الطائف توازنات القوى الجديدة التي أفرزتها الحرب، فانتقل الموقع الأول في السلطة التنفيذية عملياً إلى رئاسة مجلس الوزراء، وتعزز هذا التحول بعدما «غزا رفيق الحريري السلطة من خارج العملية الإنتخابية، بواسطة إنقلاب مالي»، عبر المضاربة على سعر صرف الليرة اللبنانية، بحسب طرابلسي. «كان طبيعياً أن تلحق المصالح الإقتصادية المهيمنة بمركز الثقل الجديد في السلطة السياسية وتلتف حوله»، يقول طرابلسي. وقد «دشن الحريري عهداً غير مسبوق من التماهي بين السلطة السياسية والسلطة الإقتصادية، فبات يجسد المصالح الإقتصادية والطبقية الرأسمالية في شخصه»، يضيف طرابلسي، لافتاً «أنه لمعبّر جداً أن لا تتنازل البرجوازية المالية عن سدة رئاسة مجلس الوزراء بعد اغتيال الحريري»، إذ تولاها بعده أبرز معاونيه، فؤاد السنيورة، قبل أن يخلفه نجيب ميقاتي، «صاحب المليارات القادم من عالم الإتصالات والعقارات». أما نبيه بري، الذي «جاء إلى رئاسة المجلس النيابي بما هو قائد حركة مسلحة وزعيم منطقة الجنوب وممثل الشيعة في الرئاسات الثلاث وصاحب النفوذ الأقوى في الإتحاد العمالي العام والجامعة اللبنانية، والممسك بمفاتيح التوظيف في الإدارة والقوات المسلحة وأجهزة الأمن... (فتحول) إلى قطب تلتف حوله المصالح الإقتصادية، وبالأخص منها مغتربو أفريقيا والخليج من الشيعة ومصالحهم العقارية والمصرفية والتجارية... وصار راعياً لشركة إستثمار إنترا وبنك التمويل ومشاريع البنية التحتية في الجنوب، رغم أن حزب الله قد نجح في منافسة بري على النفوذ في أوساط البرجوازية الشيعية، خصوصاً بعد العام 2006»، ليعوّض رئيس المجلس عن ذلك «بدور مركزي متزايد في تمثيل مصالح البرجوازية اللبنانية بعامة، كما تجلى في معارك الأجور والرتب والرواتب خلال الأعوام الأخيرة»، يوضح طرابلسي.