بعد طول انتظار لخبر كان الجميع يعرفه، أعلن المشير عبد الفتاح السيسي تنازله عن البزّة العسكرية وترشحه للرئاسة، نزولاً ـ كما قال ـ عند رغبة الجماهير. وقد حاول كعادته مخاطبة الوجدان الشعبي، فذكّر بأنه قدم حياته كلّها في خدمة الوطن. هذا الإعلان يأتي في ظرف استثنائي وخطير في تاريخ مصر وشعبها. فالبلد في حالة استقطاب شديد وأجواء مشحونة وأزمة اقتصادية خانقة وحالة أمنية متردّية.

ولا يكاد يمر يوم إلا يسقط فيه ضحايا من مواطنين وعناصر أمن برصاص مجهولين أو في انفجارات وعمليات انتحارية، كالتي استهدفت مديرية أمن القاهرة قبل أشهر.
فهل لهذا الترشح تداعيات، وهل هو فعلاً يخدم مصر وأهلها، وما مدى صوابية هذا القرار؟
قد يجادل البعض ويقول إنّ فئة عريضة من الشعب هي التي أرادت دخول السيسي معترك السباق السياسي، وهذا صحيح ولا يمكن أن ننْكره بعد أن رأى فيه الكثيرون «المسيح المخلّص» من حكم الإخوان.
لكن، ألم يلتفّ الشعب قبل الآن، حول ترشيح محمد مرسي حين خشي عودة نظام مبارك عبر الفريق أحمد شفيق الذي أتى في المرتبة الثانية في انتخابات الرئاسة عام 2012؟
ترشّح السيسي سيزيد من حالة الانقسام التي أصابت المجتمع المصري بعد سنة 2012. فعندما أطاح المشير الرئيس مرسي برّر الانقلاب أو تصحيح مسار الثورة، سمّوه ما شئتم، برّر خطوته بالاستجابة لمطالب الجماهير التي خرجت في تظاهرات عارمة مطالبة الرئيس الإسلامي بالاستقالة.
لكن، ما الذي حدث بعد ذلك؟ قمع غير مسبوق لكل من يجرؤ على معارضة عزل مرسي. لا بل دُشّن عهدُ ما بعد 30 يونيو بفضّ دموي لاعتصام ميدان رابعة العدوية، ما أدى إلى مقتل أكثر من ألف شخص من أنصار الإخوان المسلمين بحسب التقديرات الرسمية.
بدخوله معترك السباق الرئاسي، إن كان هناك سباقٌ أصلاً، يقدم المشير عبد الفتاح السيسي أكبر هدية لمن كانوا يقولون إن الانقلاب على أوّل رئيس منتخب في تاريخ البلاد لم يكن لأجل مصر كما أعلن يوماً، بل كان لأغراض الاستحواذ على السلطة، وهو الذي أعلن زهده في الحكم حين قال إنّه «لن يترشح للرئاسة وإنه لن يسمح للتاريخ بأن يكتب أن جيش مصر تحرّك من أجل مصالح شخصية». وبهذا يكون المشير قد أخلف أوّل وعد قطعه على نفسه أمام الشعب.
كان الأحرى بالسيسي أن يبتعد عن السياسة وغرورها ويظل حارساً أميناً لمصر

من بين مَن استبشروا خيراً بتدخل الجيش في الثلاثين من يونيو، لا شك أنهم أعادوا النظر في مواقفهم بعدما رأوا ما جرى ويجري من تضييق على الحريات، وسنّ قانون التظاهر وزجّ للصحفيين في السجون بتهمة التآمر، فضلاً عن حبس النشطاء السياسيين، ومنهم على سبيل المثال وجوه بارزة في ثورة 25 يناير، كأحمد دومة وأحمد ماهر ومحمد عادل، وهم قادة حركة 6 أبريل الذين حُكم عليهم أخيراً بالحبس 3 سنوات، رغم أن فيهم من هلّل لتحرك الفريق الأول آنذاك ضد مرسي.
مصر بعد 30 يونيو، أصبح القضاء فيها يحكم بالإعدام وفي جلسة واحدة على أكثر من 529 شخصاً من أنصار مرسي في جلسة واحدة. وإذا كان هناك من يجادل بأن القضاء مستقل وأن المشير لا دخل له في ذلك، فإنه بهذا يرمينا بالسذاجة لأنه يعرف جيداً من هو رجل مصر القوي بعد إطاحة محمد مرسي ومن يقبض على زمام الحكم في البلاد، وإلا فكيف يستقبل الرئيس الروسي فلاديمير بوتين المشير ويعامله معاملة الرؤساء؟
إن ترشّح المشير لانتخابات الرئاسة سيزيد الأمر تعقيداً، لأنّ الجيش يجب أن يكون مؤسسة تلتفّ حولها كافة فئات الشعب، لا أن يُزجّ به في السياسة ويكون طرفاً في النزاع ويصبح هدفاً مشروعاً في نظر بعضهم.
هل فكّر المشير في كل الدماء التي تسيل في الاحتجاجات المطالبة بعودة الرئيس المعزول؟ هل سيوقفها ترشحه أم العكس؟
لقد قال عبد الفتاح السيسي يوماً إنه مستعد لأن يموت من أجل مصر وها نحن نرى الشعب هو الذي يموت.
ومن أجل ماذا ومن؟
وحين وعد المصريين بالأمن والأمان وبغد أفضل في خطاب عزل مرسي، رأينا أنه لم يتحقق شيء من هذا على قصر المدة التي نتحدث عنها. فهل يريد أن يقنعنا بأن الأمن سيستتبّ وهو رئيس بينما لم ينجح في مسعاه وهو وزير للدفاع في الحكومة الانتقالية؟
إن التوتر الأمني لا يشمل فقط المدن الكبرى كالقاهرة والإسكندرية والمنصورة، بل يتجلى أيضاً في ما يحدث في سيناء من عمليات تتبناها ما يعرف بجماعة أنصار بيت المقدس كاستهداف للجنود المصريين والسياح الأجانب في بعض الأحيان. مثلما جرى في العملية الانتحارية التي استهدفت باصاً يقلّ سياحاً من كوريا الجنوبية في طابا. فأين هو الأمن الذي قال المشير إنه تدخل لفرضه ولحماية البلاد من الخطر الداخلي كما الخارجي؟
من الأمانة أن نعترف بأن مصر لم تهدأ بعد 30 يونيو، وهي قطعاً لن تهدأ بعد إعلان السيسي ترشّحه، وحالة الاحتقان التي كانت سائدة أيام مرسي زادت حدتّها.
وكيف يمكن رئيس مصر المقبل الذي لا نشك في هويته مطلقاً، أن يحكم شعباً وقد استعدى من خلال سياسة الإلغاء والقمع التي اتبعها وحكومته، نحو 40% أو أكثر من هذا الشعب، وهي النسبة التي تتمسك بمرسي وتطالب بعودته وعانت من بطش السلطة بسبب موقفها السياسي.
إن رئيس مصر في مثل هذه الظروف المصيرية يجب أن يكون مصدر إجماع أو على الأقل لا يثير هذا الكمّ من الغضب والحقد في صفوف معارضيه.
من سخرية القدر أنّ المشير السيسي أعلن ترشحه بعد يوم واحد فقط من توديع الإسبان للسيد ألفريدو سواريز رئيس أوّل حكومة ديموقراطية تعرفها إسبانيا، بعد سقوط الديكتاتورية بموت الجنرال فرانكو عام 1975.
السيد سواريز يدين له الإسبان بوضع بلادهم على طريق الديموقراطية، وهو الذي كان وزيراً في حكومة فرانكو.
لكنْ بعد موت الديكتاتور وصعود الملك خوان كارلوس على العرش، عيّنه الأخير رئيساً للوزراء ما بين 1976 و1981.
وأوكلت له مهمّة قيادة الفترة الانتقالية بعد 40 سنة من الديكتاتورية والحروب. وقد كانت مرحلة صعبة وحرجة بدأت فيها البلاد تشقّ طريقها نحو الديموقراطية.
وبالفعل، كان السيد سواريز في مستوى المسؤولية، فأطلق الحريات وأفرج عن السجناء السياسيين وسمح بالتعددية الحزبية، وكان مهندس المصالحة التي شهدتها إسبانيا.
كان يمكن من كان عضواً في حكومة ديكتاتورية أن يستغل فرصة تعيين الملك له رئيساً لحكومة انتقالية لينقلب عليه وينصّب نفسه حاكماً مطلقاً. لكنه آثر مصلحة البلاد على مصلحته الخاصة ولم تأخذه شهوة السلطة فدخل التاريخ من أوسع أبوابه.
ومثلما وحّد الإسبان في حياته، فإن السيد ألفريدو سواريز وحّدهم أيضاً في مماته؛ لأن إسبانيا كلها بكَتْه ومشت في جنازته المهيبة جموع غفيرة من المواطنين يتقدمهم رجال السياسة على اختلاف انتماءاتهم واتجاهاتهم. وقد أوصى السيد سواريز أن يُكتب على قبره العبارة التالية «إن المصالحة ممكنة وقد تحققت».
كان يمكن السيسي، على غرار سواريز، أن يدخل التاريخ من أوسع أبوابه أيضاً وأن يثبت أن تدخّله في 30 يونيو كان من أجل الوطن، لأن الرئيس المعزول محمد مرسي ارتكب أخطاءً قاتلة تجعلنا نتساءل عن مدى أهليته لهذا المنصب.
كان الأحرى بالمشير أن يبتعد عن السياسة وغرورها، ويظل حارساً أميناً لمصر وشعبها. لكنه يبدو أنه استسلم لبريق السلطة وللإغراءات المالية التي قدمتها دول كالإمارات والسعودية لمجرد أن لهما ما يشبه الفوبيا من جماعة الإخوان المسلمين لما تشكله من تهديد لنظام الحكم القائم في البلدين. لكن يجب أن نعرف أنّ المال لا يشتري الأمن أبداً، ولا يشتري السلم الأهلي ولو فعل... فإلى حين.
أمام المشير المرشح لرئاسة مصر مثلان من التاريخ: مثَلُ السيد سواريز السابق ذكره، ومثل الرئيس الباكستاني المعزول الجنرال برويز مشرف. وليعذرني القارئ على هذا الاستطراد والإطالة، لكن الأمر يستحق ذلك.
فقد قاد مشرف عام 1999 انقلاباً على حكومة منتخبة بزعامة نواز شريف، بحجة أن الأخير كان يخطط لاغتياله بإسقاط الطائرة التي كان على متنها.
ونجح الانقلاب بقيادة الجنرال الذي كان هو الآخر قائداً للجيش ووضع شريف في السجن، وحُكم عليه بالإعدام بتهمة الخيانة قبل أن تتحول العقوبة إلى السجن المؤبد ثم النفي إلى السعودية.
وعطّل مشرّف الدستور وفرض حالة الطوارئ ونظم انتخابات فاز فيها واستأثر بكل الصلاحيات التنفيذية كرئيس بعد أن كان منصب الرئاسة شرفياً.
ونُظمت له حملة علاقات عامة لدى الغرب الذي حاول تجميل صورته كرجل المرحلة في باكستان ونسي الغرب المنافق كعادته الانقلاب الذي قام به مشرف لأنه كان في حاجة لخدماته، وخصوصاً في الحرب على ما يسمى الإرهاب التي شنها جورج بوش بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر.
لكن ما الذي حدث بعد ذلك، لقد أُطيح رجل إسلام آباد القوي بسبب سياسته والقمع الذي مارسه واتهامه بالوقوف وراء اغتيال زعيمة حزب الشعب بناظير بوتو. وكان عزْلُه لرئيس المحكمة العليا افتخار تشودري المسمار الأخير في نعش حكمه، حيث خرجت التظاهرات تطالب بتنحي الجنرال الذي أصبح رئيساً إلى أن رضخ وتخلى عن الحكم. وها هو اليوم يدان بتهمة الخيانة العظمى، وهي تهمة تصل عقوبتها إلى الإعدام.
إنها ليست مقارنة بين المشير السيسي والجنرال مشرف بقدر ما هي دعوة لأخذ العبرة من التاريخ، وما أكثر دروسه.
فقد تنفع وقفة صادقة مع النفس بعيداً عن المطبّلين والمنتفعين والقوى الإقليمية والدولية التي لا تريد أبداً لمصر أن تسترجع دورها في قيادة الأمة، لأنّ مصر القوية المستقلة الإرادة والمعتمدة على مواردها وشعبها تهديد لتلك القوى. فهم يريدونها دائماً طرفاً في معادلة المحاور وأداة في يد الكبار ورهينة المعونات الأجنبية والهبات التي لم ولن تكون أبداً دون ثمن.
مصر أكبر من الجميع وأهمّ من الجميع. قدَرُها أن تقود الأمة. لكن، لا يمكن لها هذا ونظامها مشكوك في شرعيته وشعبها منقسم على نفسه وأمنها مهدد من الداخل والخارج.
* صحافيّة جزائريّة ــ فرنسا