إذا كانت تجربة صلاح صولي وُصفت مراراً بأنها حفريات متتالية في ندوب الحرب اللبنانية ومجتمعاتها المهددة في أزمنة السلم الهشّ التي تبعتها، فإن معرضه شبه الاستعادي في «غاليري أجيال»، هو أشبه بوضع تلك الحفريات بعضها بجوار بعضها الآخر في لحظة واحدة. مفردة الحفريات الأركيولوجية في طبقات الحرب والمجتمع تحظى الآن ببعد بصري بديهي يتعلق بجمع وتكويم أعمال عُرضت سابقاً في أزمنة وأمكنة مختلفة، ولا بد أنها بثّت انطباعات انفرادية لها علاقة بموضوعاتها وبزمن عرضها، وها هي اليوم مطالبة بتجديد تلك الانطباعات أو تعديلها أو على الأقل بأخذ الموضوعات المجاورة والملاصقة لها في الاعتبار.
الفنان اللبناني المقيم في ألمانيا يجد نوعاً من الإرباك في هذه الفكرة، فهي بالنسبة إليه «أول مرة أرى أعمالاً لي تعود لفترات مختلفة في مكان واحد»، لكنه أيضاً «مهتمٌ بالحوار الذي يمكن أن ينشأ من هذا التجاور». الحوار المفترض سهل الحدوث بمجرد أن تتبادل الأعمال المعروضة النظر في ما بينها. أعمالٌ مجلوبة من ثمانية مشاريع عُرضت بين عامي 1992 و 2013، وتبدأ بمشروع «انتهاء الوقت» عن مفقودي الحرب الأهلية، وتنتهي بأعمال من مشروع «زمن الخفاش الأزرق» الذي عاد فيه الفنان إلى زمن أحداث 1958 كنسخة أولية للحرب اللاحقة، وعُرض في الغاليري ذاته العام الماضي. هناك نوع من الاختزال الضروري بسبب مساحة العرض التي من الطبيعي أن تضيق بمواد وعناصر تمثل ثمانية معارض. الاكتفاء بنماذج وخلاصات منها لم يُنجِ لحظة العرض من فكرة أنّ قرب المتلقي من الأعمال يجعلها أكثر شراسة في نقل عدواها إليه. في أعمال وتنظيرات تتطلب من المتلقي أن يكون شاهداً لا متفرجاً، تصبح الشراسة جزءاً جوهرياً من هذه الأعمال التي تبدو كأنها _ بالمصادفة _ اكتسبت تأويلات جديدة أو تعززت تأويلاتها السابقة. يستسيغ صولي هذا التفسير، ويتذكر أنّ الجاكيتات التي عُرضت عام 2009 في فضاء كنيسة برلينية قديمة، كانت تحتفظ بمسافات عن زوار المعرض، بينما هي الآن تتدلى قريبة من رؤوسنا، ونحتاج أن ننحني قليلاً لنراها وننتبه أكثر إلى الروح «الماغريتية» في لوحة تُظهر الجاكيتات ذاتها كأنها تهطل من السماء. ومن زاوية أخرى، يمكننا النظر إلى وجوه المخطوفين أو أعمال أخرى من الفجوات بين الجاكيتات المعلقة. كأننا نعبر من معرض إلى آخر بخطوة واحدة أو بالنظرة نفسها. التجاور والتلاصق يُكسبان الأعمال تلك «الخفّة» التي لا تُحتمل، لكنهما يُظهران وعي الفنان ونضجه عبر سلسلة من المشاريع. النضج لا يعني انتفاء القلق بالنسبة إلى الفنان. «ما زلت أتأرجح بين مكانين، علاقتي ببيروت صارت أقوى مع زياراتي المتكررة وتواصلي معها أكثر من السابق، وأجد نفسي منخرطاً بسرعة أكبر في يومياتها الآن، لكني لا أزال أحتفظ بإحساس المهجّر والغريب إلى حد ما». توصيفٌ يفتح الباب أمام تراكم هذه التجربة في برلين، حيث «هناك صعوبة في استقبال هذا النوع من المشاريع القائمة على هوية محلية وعناصر شخصية»، بحسب تعبيره. هو يرى أن «علاقة هذه الأعمال مع المتلقي اللبناني أسهل»، ولكن «ممارسات الفنون المعاصرة تخفف من هذه الصعوبات في مواجهة المتلقي الأجنبي». كأن صولي يرتاح إلى التأويلات غير المفكَّر بها التي يمكن أن تبثها أعماله المصنوعة أصلاً بمفردات وجروح وأسئلة تنزف من هوية أخرى. كأن ذلك يُريح مشاريعه ذاتها من العنف الكامن فيها، ويسمح لها بحياة أقل ضراوة مع جمهورٍ لا يحمل هوية صانعها.


يمكنكم متابعة حسين بن حمزة عبر تويتر | @hbinhamza