ثمّة خيط خفيّ خطير يربط بين سلسلة الرتب والرواتب المستحقة اليوم أمام المجلس النيابي، وبين محطة 13 نيسان العابرة في وجداننا قبل أيام. ما الواصل بين المسألتين؟ في الذكرى التاسعة والثلاثين لحربنا الأهلية، يكفي أن نستذكر موضوعات ذلك الجنون الأهلي، كما نتائجه بعد انتهائه ونفاد ناره ورصاصه. إندلعت الحرب حول عناوين كثيرة، معظمها صار يتوالد عناوين جديدة، أو يتشظّى أخرى فرعية.

بدأنا اقتتالنا حول قضايا من نوع السلاح الفلسطيني، وقضية فلسطين، ومؤامرات الوطن البديل والمؤامرات المقابلة بتصفية القضية المركزية للصراع العربي ــــ الاسرائيلي. كما أطلقنا جنوننا وسط شعارات وأهداف من نوع هوية لبنان وانتمائه، علاقته مع محيطه العربي، وحدة الدولة أو مؤامرات التقسيم، نهائية الوطن أو عودته إلى «الوطن الأكبر». ومن هنا دخلت سوريا على حربنا وحروبها الإقليمية. فصار سلاحها حرباً إضافية. صار موضوع انسحابها ورقة في مقابل مواضيع كثيرة، من إصلاح النظام إلى معالجة الطائفية السياسية. حتى صارت معاركنا استنزافاً مستداماً، وصار لهذا الاستنزاف نظام أمر واقع، يفرز ناسه بين أمراء حرب وأثرياء دم وأبناء ثورات وموهومين ومجانين... فكان من الطبيعي أن يتذرّر الصراع وأن ينشطر عند كل زاروب وزقاق ومفصل واستحقاق. فصارت حروبنا أكثر صغراً وداخلية داخلية، ثم انتهت «أخوية»، حيث يكون الحقد في حدوده القصوى والعنف في طاقاته العظمى. تماماً وفق قاعدة قايين.
بعد انتهاء الحرب العسكرية سنة 1990، وبعد طي حقبة الوصاية السورية المباشرة سنة 2005، واليوم خصوصاً ونحن على مشارف العقد الرابع على انتهاء الحرب، طريف طرح السؤال: ماذا بقي من تلك الشعارات؟ وماذا صمد من مواقف أصحابها وأطراف القتل والقتال والتقاتل؟ تقريباً لا شيء. لا بل ثمة مفارقات مضحكة في استذكار ما كان وما صار. أشرس المدافعين عن السلاح الفلسطيني صاروا ضده. أعتى دعاة نظام الأسد تحوّلوا أشد أعدائه، حتى بالنار والحديد وأدوات بوش وبان كي مون. الانتماء العربي لم يعد إشكالية لدى منظري «القومية اللبنانية». نهائية الكيان صارت ميثاقاً للقوميين العرب، وصولاً حتى المزايدة برايات لبنان أولاً. الالتحاق بالوطن العربي الكبير صار مزحة، والتقسيم فزاعة. كل وقود الحرب استنفد، كل حطبها صار «رماداً لا جمر فيه»، كما يقول هشام شرابي. من قال ان الحروب لا تعلّم؟! من قال إننا لم نستخلص العبر والأمثولات ولم نتعظ من تجربة موتنا ومعموديات نارنا. مسألة واحدة، يبدو أنها لم تندثر. عنوان واحد من عناوين الحرب لا يزال حياً. ولو من دون قدرة على تفجير. ولو من دون صاعق حربي صالح. قضية واحدة لا تزال صالحة للسجال، إنها صراع الطوائف على السلطة. أو تجميلاً مسألة مشاركة الجماعات في النظام والحكم. قبل الحرب، أثناءها، مع الطائف وبعده، وحدها إشكالية محاصصة النفوذ داخل الدولة بين شيوخ قبائلنا، لا تزال عنواناً حياً، لا بل محيياً لكل أنواع الصراعات. بدليل ما حصل في الطائف نفسه بعد 15 سنة من القتل. وبدليل تجاذب حكم الطائف بين زعماء عشائرنا، ولو تحت جزمة السوري. وبدليل ما حصل بعد جلاء السوري سنة 2005، وصولاً إلى قانون الانتخابات أمس اليوم وغداً. وحدها قبائلنا الطائفية، برموزها وتخلفها وكذبها لا تزال حية فاعلة مؤثرة.
هنا ترتبط سلسلة الرتب والرواتب بمحطة 13 نيسان. ليس تفصيلاً ان تقوم في لبنان حركة نضالية نقابية مثل هيئة التنسيق. كان عشائريو الطوائف وقبليو جماعاتنا الحضارية قد اطمأنوا إلى وأد كل نفس نقابي منذ عقود. أولاً داخل الدولة والقطاع العام، ممنوع أن تكون إنساناً، فكيف تكون نقابياً. ثم في القطاع الخاص، لفقت نقابات واتحادات ودجنت حركة عمالية كاملة وروض جوع الناس ووجعهم وتم ترئيس ثعالب على غنم... جاءهم غازي كنعان من خلفية مماثلة، فساعدهم على إنجاز المهمة، كما آزرهم زعماء وطنيون كبار ونقابيون عظماء... وفي النهاية ارتاحوا. لا عمال ولا من يعملون ولا اتحادات ولا من يتحدون ولا نقابات ولا من ينقبون!
فجأة صار للبنان نضال نقابي. وصارت له ثورة أهم ما فيها أمران: لا طوائف عشائرية أو قبائل مذهبية فيها. وصارت داخل جسم الدول للمرة الأولى في تاريخ لبنان. ليس عرضاً أن يُضرب القطاع العام في لبنان. وليس هامشياً أن يتظاهر أناس بلا كليشيهات إنجيل وقرآن ودجل ونفاق آذاري من الطرفين. خطير هذا الأمر على بنية النظام الأساسية، وعلى لبنة زبائنيته الأولى. ممنوع أن يكون مثل ذلك في لبنان. محظور أن يكون صوت جائع أو موجوع، إلا إذا كان لمناشدة البيك أو الزعيم أو رأس القبيلة الطائفة. أما أن يتحول هذا الصوت أداة انتزاع لحقه من دون المرور بلافتات الانكشارية العثمانية بكل ألقابها، فهذا الخطر الأكبر. هنا تذكّر البعض ربما ما تبقى من عناوين الحرب. وحدها القضية الطائفية قادرة على ضرب كل عناوين الحياة والحرية والكرامة. فبدأ الدس. منذ أيام تدور في الصالونات والهمسات والغرف السوداء ومطابخ الفبركات الغوبلزية، كلام عن تطييف الرتب ومذهبة الرواتب: تلحينات من نوع أن القطاع العام شيعي، وأن المكلفين دافعي الضرائب سنة ومسيحيون. أن المصارف آخر ركن من لبنان السني ـــ المسيحي، وأن المياومين شيعة والمتعاقدين من فلول اليسار الذين تشيّعوا مذهباً وسياسة. يقولون إنه سنة 75 ركب الفلسطيني موجة مطالب اليسار ليزرع الفوضى في البلد، تبريراً لسلاحه ودويلته. وأن حزب الله اليوم، يركب موجة مطالب اليسار المتشيّع، ليحصد فوضى مماثلة حفاظاً على سلاحه وتسويغاً لدولته الإقليمية. يقولون إن القضية ليست قضية إنسان وخبز وكرامة. بل قضية بروليتاريا شيعية أو متشيعة، وليبرالية سنية ـــ مسيحية أو متلبرلة... منذ أيام يجري في البلد فح وبخ ونفث، عن أن كل قصة السلسلة قضية طائفية مذهبية. وأن مواجهتها واجبة تحت عنوان فرعي آخر، من العنوان الوحيد الذي صمد من حرب العام 75: صراع الطوائف على السلطة. خطير هذا الكلام وخبيث. ويجب فضحه أثناء استكمال المعركة، وضماناً لنجاحها.

يمكنكم متابعة جان عزيز عبر تويتر | @JeanAziz1