فجر الاثنين الماضي، في اخر يوم من شهر اذار، تدنت درجات الحرارة على طول سهل البقاع المنخفض وسفوح السلسلتين الشرقية والغربية واعالي عكار الى ما بين درجتين تحت الصفر و8 درجات تحت الصفر.
شعر الجميع في لبنان بموجة الصقيع تلك، الا ان المزارعين في البقاع شعروا بما هو اكثر من ذلك. شعروا بكارثة تحدق بهم من جراء اصابة اشجارهم المثمرة بظاهرة طبيعية، يطلقون عليها اسم «الموت الاسود»، للدلالة على فتكها بالمزروعات عموما. بحسب الاستقصاءات التي أجراها مراسلو «الأخبار» في البقاع (رامح حمية في البقاع الشمالي، واسامة القادري ونقولا ابورجيلي في البقاعين الاوسط والغربي)، يتوقع المزارعون ان تكون موجة الصقيع، التي ضربت اشجارهم في ظل معاناة اخرى نتجت عن شح الامطار، قد ادّت الى إتلاف ما بين 60% الى 90% من ازهار الاشجار، ولا سيما اللوز والجوز والدراق والتفاح والاجاص والخوخ والخرما والكرز والجنارك والمشمش... وبعض المزوعات الاخرى، ككروم العنب وحقول البندورة والفريز والفول والبطاطا والبازيلا واللوبيا والبصل.
اللوزيات والتفاحيات في سهل البقاع خسرت نحو 60% من براعمها


الجوز الأكثر تضررا


يطالب المزارعون بان تتولى الدولة مسح الاضرار والتعويض على المزارعين، والا فإن هذا الموسم سيكون «كارثة» حقيقية تمس قدرة الاسر المعتاشة من هذه الزراعات على الايفاء بمتطلباتها وحاجاتها.
اذاً، حطت «الملاحة» الربيعية رحالها في سهل البقاع، (رامح حمية) وغطّت الحقول والبساتين برداء أبيض أشبه بالثلوج، لكن، بعكس لونها الأبيض، صبغت موجة الصقيع الحقول والبساتين بلون أسود. أيقن المزارعون في بعلبك والهرمل أن خسائر كارثية لحقت بمواسم الجوز والكرز والجنارك والمشمش، وحتى «بالزراعات النفقية» من بندورة وفريز.
تحركت لجنة من مهندسي «جهاد البناء»، وتبين بنتيجة الكشف على سهول وبساتين القرى والبلدات في بعلبك والهرمل ان «خسائر كبيرة مني بها القطاع الزراعي بأكمله». وقال خالد ياغي، مدير جهاد البناء في البقاع، لـ«الأخبار» إن درجات الحرارة في منطقة بعلبك والهرمل تدنت الاثنين المذكور الى ما بين «درجتين و4 درجات تحت الصفر»، ومثّلت نوعا من «الملاحة» وتسببت «بكارثة على مستوى المزروعات، ما عدا حقول القمح والشعير، لكون سنابلها لم تتكوّن بعد».
كانت الأشجار المثمرة على اختلافها قد تكللت بالزهر الأبيض، بعد موجة الدفء التي سيطرت على المنطقة طيلة الأشهر الثلاثة الماضية، لكن مع «موجة الصقيع الأسود»، أو ما يعرف لدى المهندسين الزراعيين بـ«الموت الأسود»، بحسب ياغي، «تحول الزهر الأبيض على أشجار الكرز والإجاص والتفاح والدرّاق، إلى زهيرات ذابلة مع لون اسود، وأُصيبت نسبة تصل الى 60% من هذه الأزهار بالتلف، ولا سيما التي تتفتح براعمها خلال هذه الفترة».
أشجار الجوز تكاد تكون الأكثر تضرراً من موجة «الصقيع الأسود»، وهي سبق ان اختبرت موجة مماثلة ضربت البقاع قبل 5 سنوات، وتسببت بخسائر كبيرة في إنتاج الجوز. وقد لفت ياغي إلى «ذبول كافة أوراق أشجار الجوز مع عناقيدها الخاصة بالثمر، حيث بلغت نسبة الضرر «ما يفوق 80% من الاشجار». أما في ما خص الأشجار التي أبكرت في الإزهار، ونمت ثمارها على نحو واضح كاللوز والجنارك والخوخ، فقد كانت نسبة الخسائر فيها أقل نسبياً، حيث راوحت بين «40 و 60% من إنتاج تلك الأشجار» بحسب ياغي، علما أن بلدات القاع واللبوة والنبي عثمان تضررت على نحو كبير في إنتاج موسم المشمش.
وإذا كانت حقول القمح والشعير لم تتأثر لعدم تكوّن السنابل بعد، فإن حقول «البطاطا البكّيرة» تعرضت لموجة الصقيع، وكذلك حقول البازيلا في الهرمل، والزراعات النفقية (زراعات تغطى بالنايلون على شكل أنفاق صغيرة)، من بندورة وفريز.

الطرق البدائية لم تفلح

أتت موجة الصقيع في ظل موجة جفاف لم يشهدها المزارعون من قبل، (اسامة القادري)، فـ«الملاحة» السميكة التي تكوّنت مع ساعات الفجر الاولى تبعتها مباشرة موجة حر، كانت كفيلة بالحاق الضرر، ليس فقط بالاشجار المثمرة، بل بالخضار والبقوليات ايضا.
الطرق البدائية التي اعتمدها بعض المزارعين للتقليل من حجم الاضرار لم تكن نافعة، اذ أشعلوا الاطارات المستعملة والحطب في البساتين لتخفيف حدة الصقيع، الا ان الكارثة حلت على جميع مزارعي الاشجار المثمرة في قب الياس وغرب زحلة وسهل قرى شرق زحلة، ورياق... فضلا عن البقاع الشمالي، وأتلفت نسبة تصل الى 90% على الاف من الهكتارات المزروعة باللوزيات والتفاحيات، ما وضع المزارعين تحت وطأة ديون كبيرة، كفيلة بأن تهدد مصير جميع العاملين في هذا القطاع اقتصاديا واجتماعيا، ومستقبل الزراعة ما لم يعوض عليهم من هذه الكارثة.

يحاول المزارع رياض حيدر في قب الياس ان يحصي خسائره في نحو 450 دونما مزروعة بالدراق والتفاح والخوخ والخرما، قال «الخسارة بمئات الاف من الدولارات، كنت سابقا انتج 1800 طن من الفواكه، بعد هذه الكارثة بالكاد سيصل الانتاج الى 100 طن».
يشبّه المزارع شفيق الدبس في دير الغزال (شرق زحلة) ما اصاب اشجاره في بستان اللوز بـ«التسونامي»، قال «صباح الاحد قطفت لابنتي 4 كيلوغرامات من اللوز، ويوم الاثنين كان كل الموسم محروقا، قلب حبة اللوز اسود». يتحدى المزارع اي لجنة تستطيع ان تقطف حبة لوز او كرز من بستانه «صاغ سليم»، مناشدا الحكومة ان تسارع الى تأليف لجنة كشف على الاشجار، مؤلفة من الهيئة العليا للاغاثة والجيش. اسوة بتعويضاتها عن الاضرار التي تحدثها الاشتباكات في المناطق الاخرى، «التي هي من صنيعة السياسيين، فيما نحن كارثتنا من صنع الطبيعة».
يلفت رئيس بلدية دير الغزال رفيق الدبس الى ان اكثر من 5 الاف دونم مزروعة في سهل البلدة من الاشجار المثمرة، ويعيش منها غالبية الاهالي المقيمين. وما حل بهم يرتب خسارة كبيرة، ليس لهم قدرة على تحمّل تبعاتها.
وقال المزارع علي مخايل الدبس (70 عاما) إنه لم يشهد طيلة حياته موجة صقيع تترك هذا القدر من الخسائر على الزراعة، محذرا من عدم المسارعة الى رش المبيدات، لان الامراض التي ستلي هذه الموجة قد تحدث ضرراً في الشجرة نفسها، لا في ثمارها فقط التي ضربها العفن، وهذا يتطلب تدخل وزارة الزراعة فورا.
لم يسلم موسم اللوز والكرز والتفاح في رعيت، وقال المزارع توفيق عبدو «أحرقنا حطبا ودواليب في البساتين للتخفيف من الصقيع والملاحة، لكن الكارثة كانت اقوى منا».



أين أنظمة التحذير؟

يركّز المزارعون على التقلبات المناخية التي جاءت في ظلها موجة الصقيع، فهذا الواقع أسهم في مضاعفة الخسائر، اذ إن أزهار الأشجار المثمرة تفتحت قبل موعدها هذا العام (نقولا أبو رجيلي).
قال المزارع طوني السكاف «لم يعد باليد حيلة، ما كان ينقصنا سوى الصقيع، ألا يكفينا الوضع الأمني السيّئ، والحالة الاقتصادية المترديّة، وقلّة الأمطار، والخوف من شحّ مياه الأبار الأرتوازيّة»، لافتاً الى مسارعته وآخرين، في تلك الليلة، الى إشعال الإطارات ومادة المازوت حول بساتين الدراق والخوخ، ومع هذا، فإن حجم الأضرار التي خلفها الصقيع كان مهولا، «كل ما استطعنا فعله هو الحفاظ على نسبة 10 % من الموسم»، نسبة يتخوّف سكاف من فقدانها في حال تعرض المنطقة لموجة صقيع مماثلة.
يسأل المزارع زين الساحلي عن دور الجهات المعنيّة بهذا الشأن «أين هي الرسائل النصيّة التي كنا نتلقاها عبر أجهزة الهاتف الخلوي لتحذيرنا؟ أين هي توقعات الأرصاد الجويّة وإرشادات مصلحة الأبحاث الزراعيّة؟». يقول «كان بإمكاننا التقليل من حجم الأضرار من خلال إشعال النار حول بساتيننا، لو كانت هذه الجهات قد قامت بواجباتها البديهيّة في هذا الإطار».
يرى رئيس نقابة المزارعين في البقاع إبراهيم الترشيشي أن ما حصل هو «نكبة حقيقية تضاف الى ما يعانيه المزارعون من أزمات متلاحقة لم يعد باستطاعتهم تحمّل تبعاتها»، موضحاً أن موجة الصقيع ضربت أعالي عكار ومنطقة البقاع بسهلها ومرتفعاتها، من جرود الهرمل حتى مشارف صغبين في البقاع الغربي. وبحسب الترشيشي «فإن قيمة الخسائر التي لحقت بالأشجار المثمرة تقدّر وحدها بملايين الدولارات، هذا فضلاً عن الأضرار الجزئيّة التي لحقت ببعض أنواع الزراعات، مثل البطاطا والبصل وغيرها، التي ذبلت أوراقها، مع الأمل بأن تستعيد نموّها في حال عدم تعرضها للصقيع مجدداً». ويضيف الترشيشي «أن جلّ ما نطالب به هو تكليف لجان من الهيئة العليا للإغاثة إجراء كشف ميداني على حجم الأضرار، ودرس إمكان التعويض على أصحاب العلاقة بمبالغ ماليّة، أو أقله تخصيصهم بمساعدات عينيّة من أسمدة كيماوية وأدوية زراعيّة». ورأى إن الدولة مطالبة بإيلاء القطاع الزراعي الاهتمام اللازم، وأنه قد حان الوقت لإعداد خطة طويلة الأمد تنقذ هذا القطاع من خطر الزوال، باعتباره مصدر عيش شريحة كبيرة من اللبنانيين.
إنتاج البطاطا في سهل عكار سيتراجع من 100 الف طن الى 30 الف طن


البطاطا في سهل عكار

وشكا مزارعو البطاطا في سهل عكار (الوكالة الوطنية للاعلام) من أن «لفحة الصقيع» أحرقت نبتات البطاطا الخضراء وأصابتها بالتلف والعفن، بما اثر على نحو سلبي وكبير في نمو حبات البطاطا، معربين عن تخوفهم من أن تؤدي موجة الرياح الشمالية الجافة إلى تفاقم المشكلة وزيادة خسائرهم.
وأعلن رئيس بلدية تلبيرة، عضو اتحاد الفلاحين في لبنان، عبد الحميد صقر أن «تحركا شعبيا واسعا سينفذه المزارعون عامة، ومزارعو البطاطا في سهل عكار على نحو خاص، بالتنسيق مع البلديات، لطرح هذه المعاناة المتكررة، التي اضرت بنحو 80% من موسم البطاطا، وهذا امر ليس بمقدور المزارعين تحمل خسائره، وجلهم سبق لهم ان تعرضوا مرارا وتكرارا للخسائر، ولم تف الدولة بوعودها لجهة التعويض عليهم». ولفت الى ان «اكثر من 3000 هكتار من الاراضي في سهل عكار مزروعة بما يزيد على 6000 طن من بذار البطاطا، كان من المفترض ان يكون انتاجها في حدود المئة الف طن بطاطا لسد احتياجات السوق المحلية، وبيع الباقي منها للاسواق الخارجية، الا ان الانتاج المتوقع بعد اضرار الصقيع لن يتعدى الـ30 الف طن كحد اقصى».
وقال المزارع حسين علي علي إن «اكثر من 20 هكتارا زرعها بطاطا في خراج بلدة تلبيرة (40 طنا) قد احترقت بفعل الصقيع، وهذا يعني خسارة اكثر من 80% من الانتاج، علما ان كلفة انتاج الطن الواحد من البطاطا تتعدى 9 ملايين ليرة، وفي ظل انحباس الامطار والامراض التي تسبب بها المناخ السائد، فان كلفة الري والادوية والاعمال الزراعية الاخرى والاسمدة رفعت من معدلات كلفة الانتاج، لتاتي لفحة الصقيع مع اقتراب موعد جني المحاصيل لتلحق اضرارا قاتلة بالموسم».
ورأى المزارع كامل شعبان حسن، الذي زرع 7 هكتارات من الاراضي بالبطاطا أن «الخسارة اكبر من قدرة المزارع على تحملها»، ولفت الى ان المزارعين اليوم «يجهدون في سبيل تقليل حجم الخسائر، وذلك باتمام اعمال زراعية اضافية تحملهم اعباء مالية لم تكن ملحوظة لديهم على امل انقاذ ربع الموسم».




لم يتحرّك أحد

نظمت النقابات الزراعية في البقاع اعتصاما يوم السبت الماضي في منطقة البقاع الشمالي، تخلله قطع رمزي للطريق لمدة خمس دقائق عند مفرق بلدة شعت على الطريق الدولي، شارك فيه النواب كامل الرفاعي، علي المقداد ومروان فارس، رؤساء بلديات واتحادات بلدية، مخاتير، مزارعون ونقابيون.
وألقى النائب الرفاعي كلمة أكد فيها ان «المنطقة تعاني أزمة اجتماعية، وقد عانت حالة الطقس المتقلب والجفاف والجليد، الذي ضرب المنطقة، وما نريده هو بقاء المواطن والمزارع اللبناني في أرضه، وتعزيز صموده، ونطالب الحكومة بتأليف هيئة طوارئ على غرار صندوق المهجرين، من أجل تثبيت المزارع في أرضه».
ودعا النائب فارس الحكومة الجديدة الى «مساعدة الناس وحمل هموم المواطنين والتعويض على المزارعين، وإنشاء صندوق يلبي حالات الكوارث المتعددة في لبنان من أجل معالجة دائمة وثابتة».
اما النائب المقداد، فطالب الدولة بـ«التطلع الى منطقة تمثل ثلث مساحة لبنان، وثلثه اليوم مصاب بكارثة حلت بالاشجار والخضار، والمطلوب معالجة الكارثة الحقيقية الوطنية، وعلى الحكومة والمسؤول عن الملف، المعالجة، وخصوصا بعدما عرفنا انه لم يتحرك أحد، وهذه بادرة سيئة من الحكومة، ونطالب بإعطائنا فرصة للمعالجة والتحرك سريعا»، داعيا الى «تأليف لجنة للعمل، وتكليف الجيش اللبناني التحرك».





تحدّي الكوارث الطبيعية

يفصّل تقرير «الكوارث الطبيعية في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا: عرض إقليمي عام»، الذي صدر عن البنك الدولي اخيرا ما تواجهه المنطقة من مخاطر طبيعية، ويخلص الى ان هذه المنطقة تمثل أكثر مناطق العالم شحا بالمياه، ويرجح أن الطلب على الماء سيتفاقم فيها في المستقبل. في عام 1950، كان نصيب الفرد من الموارد المائية المتجددة أربعة أضعاف ما يتحصل عليه الفرد اليوم. وتشير التوقعات إلى أن الموارد المائية الطبيعية في المنطقة ستواصل الانخفاض بحلول عام 2050، حتى تصبح أقل 11 ضعفاً من المتوسط العالمي.
أزمة الجفاف تتكرر دورياً في المنطقة، وتخلّف شحا حادا في المياه وخسائر اقتصادية وتأثيرات اجتماعية سلبية. فبين عامي 2008 و2011 مثل الجفاف ثالث أكبر المخاطر الطبيعية المحدقة بالمنطقة، بعد الزلازل والفيضانات .
وقد زادت نسبة إجمالي الناتج المحلي المعرضة لمخاطر الفيضانات في المنطقة ثلاثة أضعاف، من بين أعوام 1970-1979 إلى 2000-2009. وخلص تقرير التقويم العالمي بشأن الحد من مخاطر الكوارث 2011، إلى أنه برغم تراجع عدد الوفيات الناجمة عن الفيضانات في العالم منذ عام 2000، فإن العدد في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا وبعض المناطق الأخرى ما زال في ارتفاع.
ويمثل سكان الحضر 62% من مجموع عدد السكان، مع توقع تضاعف هذا العدد بحلول عام 2040. إضافة إلى ذلك، فإن 3% فقط من مساحة المنطقة يقطنها 92% من مجموع السكان. وكل ذلك يزيد من التحديات في مجال إدارة مخاطر الكوارث، والتحول من الإجراءات القائمة على رد الفعل إلى التدابير الاستباقية لدرء آثار الكوارث الطبيعية.