في معرضه الجديد «ظلال الوحشة» («غاليري تانيت»/ بالتعاون مع «غاليري أجيال»)، يقدم أسامة بعلبكي (1978) نفسه كمؤلّف أكثر من كونه رساماً. لقد تسرّبت أشياء وعناصر وممارسات كثيرة إلى فن اللوحة بالطبع، لكنّ التأليف هنا ليس جمعاً أو كولاجاً أو تطويعاً لتجارب وتيارات فنية مختلفة، بل هو صفة واقعية تقريباً.
الرسام اللبناني يؤلف لوحته من فكرة تسبق تلك الارتجالات العفوية التي تحدث أثناء إنجاز اللوحة. الفكرة نفسها تحتوي على سيناريو ما، بينما الرسم يصبح نوعاً من مجاراة مستمرة للصورة الموجودة في الفكرة. هل هذا فن مفهومي؟ لعله كذلك، مع محاولات دؤوبة لخلق تجويفات وتعديلات في تعريفه الأصلي. تعديلاتٌ تجعله لائقاً بلوحات عادية أيضاً. لوحاتٌ تصنع للرسام اللبناني الشاب صلاتٍ بفنون وممارسات معاصرة أخرى. صلاتٌ رأيناها في معرضين سابقين احتضنتهما «غاليري أجيال» عامي 2009 و2011، وكان فيهما نوع من البحث أوالتنظير الذي يُراد منه أن يكون حاضراً في خلفية العمل الفني، وأن يكون العمل نفسه قائماً على طبقات من الأسئلة والطموحات. كان ذلك بدايات ما سيصبح أسلوباً أو خياراً فنياً يهجِّر اللوحة إلى فنون مجاورة، ويُعيدها محمّلة بمذاقات مختلفة، ومغتنية من مناخات ومرجعيات أكثر حداثة من زمن اللوحة البديهي.
والنتيجة أنّ هذه التعددية تنقل انطباعاتٍ مماثلة إلى المتلقي الذي عليه أن يأخذ اللوحة مع الأفكار والممارسات التي تدخّلت في إنجازها، ومع الانطباعات الإضافية التي تنشأ عن ذلك.
لوحة تحافظ على هويتها
ولا تتجاهل الوسائط الراهنة في سوق الفن المعاصر
بهذا التصوّر، تستطيع لوحات بعلبكي أن تحافظ على هويتها، وألّا تتجاهل الوسائط والتعبيرات الراهنة في سوق الفن المعاصر. كأن الرسام يجد لنفسه تسويةً ما تجعله منتمياً إلى ما يحدث، لكن وفق اشتراطات ذاتية تكفل حصول ذلك وفق التربية الأكاديمية التي تلقاها في دراسته للفن. التسوية هي مجرى مستمر في هذه التجربة، التي مزج فيها بعلبكي هشاشة الكائن الإنساني ويومياته العابرة والمهملة مع السعي إلى ترجمة ذلك على شكل أيقونات وأساطير يُحتفى بها، ويمكن أن تتذرّر وتتلاشى في الوقت نفسه. نتذكر أن «أساطير يومية» كان عنواناً لافتاً لأحد دواوين الشاعر السوري الراحل رياض الصالح الحسين (1954 ــ 1982). لا علاقة مباشرة للمعرض بذاك الديوان طبعاً، لكن طبائع العزلة والوحشة والفردية والتقشف البصري الذي تطرحه لوحات المعرض، تُغرق تجربة صاحبها في مفردات وعوالم مماثلة. مفرداتٌ ظل بعضها مكتوماً وموارباً في معارضه السابقة، لكنه يُشهرها اليوم علانيةً، ويضعها كنص مكتوب إلى جوار اللوحات المعروضة التي صارت تحظى بمعجم لغوي وشعري إلى جانب معجمها اللوني المتقشف بدوره إلى أبيض وأسود في اللوحات التي يحتلها الرسام نفسه، مع حضور أكثف للألوان في أعمال تحضر فيها الطبيعة.

هناك أصل فوتوغرافي، واقعي أو مختزن في الذاكرة، لمشهديات الطبيعة التي يُلعب فيها على التضاد الذي تخلقه الاعتداءات البشرية والآلات على بكارتها وفطرتها الأبدية، أو في تلك السيارات القديمة والمخرّبة المتروكة في حضن الطبيعة، بينما اللوحات الأخرى تُظهر الرسام كأنه يؤرشف لحظات شخصية ووضعيات جسدية تخصه هو. الشعر موجود في كسر عزلة شخص اللوحة، وفي كسر عزلة الطبيعة أيضاً. شعرٌ يتراكم ويسيل ويأخذ مكانه بجانب اللوحة، ويقرأه المشاهد كجزءٍ جوهري من تأليفها. التأليف إذن يُعيدنا إلى البداية، فنعرف ــ بحسب عنوان المعرض نفسه ـ أنّ اللوحة منجزة في ظلال النص، وأن النص منجز في ظلال اللوحة، وأن الوحشة واحدة وكثيفة في الحالتين.

هكذا، وبجوار لوحة «جوقة نهارية» التي تظهر فيها خطوط التوتر العالي فوق ما فعلته الكسارات بالمرتفعات الجبلية، يصبح طبيعياً أن نقرأ نصاً/ قصيدة مثل: «في الأعالي هناك/ حيث المشهد رائقٌ كما في كتابٍ مدرسي/ وحيث المسالك والارتفاعات كأنها جُهّزت لشدْوٍ/ المدى لُحمة ورعٍ وطراوة/ هناك حيث تموت الأشياء مراراً/ همس القشّ ونحيب الرعاة/ كهنةٌ ومقاولون/ أديرةٌ ومقالع/ وقرىً شاغرات/ ينتظرن الاصطياف بأدب/ هناك أزور منشئي في الأصداء/ وأرغب في البكاء تحت شيرْ».



«أسامة بعلبكي: ظلال الوحشة» ـــ حتى 26 نيسان (أبريل) ــ «غاليري تانيت» (مار مخايل)، للاستعلام: 76/557662

يمكنكم متابعة حسين بن حمزة عبر تويتر | @hbinhamza