سيكون أمام باحثين جدّيين مجالات كثيرة ووقت أكثر لدرس واقع لبنان خلال العقد الأخير. وسيكتشف الناس بعد وقت، قصير أو طويل، حقائق لا يعتقدون اليوم بوجودها. كما سيظلّ الوقت مفتوحاً أمام علمانيين، أو لاطائفيين، لإظهار عناصر القوة في خطابهم، علّهم يجذبون الشارع صوبهم. لكن السؤال الملحّ، اليوم، هو الأزمة الهائلة التي تعصف بمشرقنا العربي، على خلفية صراع سني ــــ شيعي. هكذا هو شكله اليوم. من دون مواربة أو احتيال. والسؤال الأكثر إلحاحاً يتعلّق بقسم كبير من المتبنّين للمذهب السياسي ــــ السني، ويخوضون معركة ضد إيران وحزب الله، وصار قسم منهم يتعامل مع الشيعة على أنهم أعداء لهم.

النقاشات الهادئة قليلة مع أصحاب هذه الوجهة. وقلّما يتاح إحداث خرق يسمح بمجرد التواصل، بحثاً عن فهم أدقّ لخلفية الموقف. ولأن الأمر يلامس مرحلة الانتحار الذاتي عند قسم من هؤلاء، وجب نقل النقاش الى العلن، ووجب دفع الأمور صوب النهاية، بعدما صار الموت انتحاراً هو خيار هؤلاء. وهنا لا مجال للتشاطر، ولا للتستّر خلف أوهام. ولا حتى التغاضي عن حقائق قائمة.
في العقل الجمعي للمنتمين الى «السياسية السنية»، هناك تصورات عامة حكمت السلوك الجمعي. وافق هؤلاء على أن تمثّلهم قوى دينية وسياسية واقتصادية، ظهرت على شكل دول وحكومات وقوى وتيارات وهيئات، وهي التي تقود هذا الشارع منذ عقود عدة. وأبرز هؤلاء مملكة آل سعود وشقيقاتها في الخليج العربي، وحكّام دول أخرى عاشوا على دعم هؤلاء، ورجال أعمال تقرّر أن يصبحوا رؤساء دول وحكومات وتيارات سياسية، بأمر من هؤلاء أيضاً. وبعد كل ما مرّ، لم يحصد هؤلاء سوى الفشل والخيبة. لم ينجحوا في بناء دولة، ولا في رفع مستوى الناس، ولا في تقدم علمي حقيقي، ولا في بناء اقتصاد حقيقي، ولا في بناء جيش قوي. وهم، اليوم، يفقدون مواقعهم واحداً تلو الآخر، وإذا ما استمرت السياسات نفسها، فحتى مواقع نفوذهم في الخليج العربي ستسقط خلال أقل من عقد على أبعد تقدير.
الانتفاضة الأولى على هذا العقل الحاكم باسم الدين جاءت من أتباع الدين نفسه، وقامت على شكل قابل للاستخدام. هذا ما حصل يوم التزمت ممالك الجزيرة العربية مشروع مواجهة الشيوعية بوصفها الوباء، وتدرّج الأمر حتى حدود معركة أفغانستان، لينتهي الأمر الى بناء دولة متخلّفة تحت حكم «طالبان» ممثلة السلف الصالح كما يعتقدون. قبل أن تصبح، وسريعاً جداً، عبئاً على أهلها وعلى رعاتها. وتكون النتيجة انتفاضة من قبل المدرسة، باسم تنظيم «القاعدة»، بوصفه أداة ثورية عالمية لهذه القاعدة الاجتماعية الملتحقة بالفكر الديني والعقائدي نفسه السائد في الجزيرة العربية. وما لبثت هذه الثورة العالمية أن أدخلت نفسها في مغامرة، ليس فيها شيء من الحسابات المنطقية. برغم مشروعية الكثير من شعاراتها، وانتهى الأمر بها طريدة، تديرها الفوضى التي منعت شيخها الراحل أسامة بن لادن حتى من تصحيح بعض الأخطاء. وها هي، اليوم، أداة للاستخدام في حروب العالم الكبيرة.
وفي لبنان، حاولت هذه العصبية العالمية تقديم نموذج مدني لها، من خلال تجربة رفيق الحريري، انتهت الى مشكلة بينه وبين ثلثي اللبنانيين قبل مقتله، بطريقة تشير الى طبيعة الصراع. ومن ثم بدأ انهيار إمبراطورية ذات جذر مالي قوي، وبقيت منها عصبية تعيش مرحلة الأفول. وهي حاولت اللجوء الى وعاء أيديولوجي من خلال تيارات دينية بدت غريبة عن طبيعة أهل المنطقة، ثم ما لبثت هذه التيارات أن تمردت، ولو على دفعات، معلنة خروجها عن طاعة ولي الأمر.
جاء «الربيع العربي» ليفتح الباب أمام تجارب أخرى. لكن الصدمة تمثلت في خطأ قاتل ارتكبه تيار «الإخوان المسلمين» الذي استسلم لغواية السلطة، بديلاً من سؤال الهوية الوطنية، والبرنامج الاقتصادي البديل، والمشاركة رداً على العقل الإقصائي الذي طارد هذه الجماعة سابقاً. ثم ارتكب هذا التنظيم العالمي خطأً قاتلاً آخر، بقبوله تأجير حراك الشارع العربي لمصلحة أنظمة متخلفة وبالية وغير مستقلة، فأعيد الشارع الى حضن ممالك الجزيرة العربية، لينتهي به الأمر شلالاً من الدماء، كما هي الحال في ليبيا ثم في سوريا ولبنان.
لا حاجة الى استعراض ما يمكن لهذا العقل الجمعي أن يرى فيه استفزازاً وتحدياً له، من نجاح ثورة إيران في بناء دولة قوية، قابلة للعيش والتطور، وقادرة على مواجهة العالم كله، وخوض معارك قاسية عسكرية وأمنية واقتصادية وسياسية وإعلامية، مع نتائج فيها الكثير من الربح والقليل من الخسائر. والتحول الى رمز لعقل جمعي آخر، يخص أتباع «الشيعية السياسية»، الى نجاح هذا التيار في انتزاع حكم العراق، بكل ما فيه من مشكلات بنيوية وعقلية قد تقود الى كوارث، إلى نجاح تجربة حزب الله كقوة مقاومة صارت لاعباً إقليمياً مهماً، وصولاً الى حماية أبرز الحلفاء في سوريا اليوم.
هذه النتائج المقابلة ربما تعزز الإحباط لدى المنتمين الى العقل الجمعي لأتباع «السنية السياسية». لكن السؤال الحقيقي عند الفرد وعند المجموعة وعند الجماعة من هذا التيار هو: أين يقع الخلل؟ هل هو في أصل الفكرة، أم في المعتقد السياسي ــــ المذهبي، أم في القيادة، أم في آليات التفكير والعمل، أم في الأدوات والحلفاء؟
ما نراه اليوم، من سياسة مملكة آل سعود، وشقيقاتها في الجزيرة العربية، الى حالة «الإخوان المسلمين» في كل العالم العربي والإسلامي، إلى تفرعات «القاعدة» وأخواتها، الى الوجوه الغريبة التي تنشط في سوريا وليبيا وسيناء، الى حالات مدنية مثل أحزاب العدالة والتنمية في تركيا وبقية العالم، الى تيار المستقبل في لبنان. كل هذه القوى تتبع سياسة تعني أن هؤلاء لا يزالون اليوم، وبعد عقد من الزمن، وخسارة كل هذه المشاريع، وفشل كل هذه البرامج، يصرّون على رفض المراجعة وعلى القول: لقد تم إفشالنا!
ليس بمقدور أحد إقناع آخر، أي آخر، بالتراجع الى الخلف بقصد التفكير والمراجعة. وليس بوسع إيران تعديل مزاج هذا الشارع. كما ليس بمقدور شخص مثل السيد حسن نصر الله، اليوم، إقناع جمهور هذا التيار الواسع، بمغادرة هذا المشروع. وليس منطقياً أن يفكر بأمر كهذا، وإن كانت استحقاقات كبيرة تنتظره وحزبه في كل العالم. إلا أن السؤال يعود ليرمى في وجه من يجب أن يتحمل المسؤولية عن مصيره.
السؤال، اليوم، هو برسم كل كاره لحزب الله، وكل رافض لإيران، وكل مشكك في حقيقة أن المقاومة تستهدف القضاء على إسرائيل، وكل مقتنع بأن محور بيروت ــــ دمشق ــــ بغداد ــــ طهران ــــ موسكو، هو محور الشر بعينه. وعلى صاحب هذا الشعور، أو هذه الوجهة، أن يهدأ. وأن يجلس مع نفسه قليلاً، وأن يفكر من دون توتر، مثلما يفكر عندما يختار مدرسة لابنه، ومثلما يدقق عند اختياره لمسكنه أو عمله، ومثلما يحسب تجارته، وأن يدرس الأسباب والمقدمات والنتائج.
وفي ترجمة لهذه الحالة عندنا في لبنان، يفترض بمن هو حامل لهذا الموقف أن يتوقع المزيد من النار. سينتقل القتال الى داخل البيت الواحد. وستتقاتل مجموعات هذا التيار في ما بينها، كما بدأت الأمور في طرابلس، وكما تشتعل النار بصمت، ولكن بقوة، في عرسال وقرى البقاعين الأوسط والغربي، وكما هو الترقب والقلق في مخيمات اللاجئين الفلسطينيين أو النازحين السوريين في لبنان.
ما يحصل اليوم، هو مرحلة جديدة عنوانها تصفية الحسابات بين الفاشلين أنفسهم. وسيسعى الكبار من هؤلاء، الذين يتسمون بانتهازية كبيرة، إلى الحفاظ على مواقعهم، بأن يجعلوا الناس يدفعون الثمن عنهم. فيجعلون كوادرهم كبش محرقة. ويتذرعون بالعجز عن العون، بينما هم يكدسون الأموال المنهوبة في جيوبهم. ويسعون الى رفع سقف خطاب التعبئة والتحريض، خشية أن يبتعد المصلّون عن مساجدهم.
السؤال اليوم أمام هؤلاء، ليس: لماذا نكره حزب الله؟ بل لماذا نفشل في مواجهته؟
لا نفع، هنا، لكل ترهات عن اندساس عناصر المخابرات السورية بينهم، أو عن دخلاء بعث بهم حزب الله، ولا عن جيش متغطرس تقوده الدولة الصفوية. كل هذا الكلام لن ينفع في شيء. كما لن تنفع الحريرية أي محاولة لرفع الصوت تحريضاً بقصد كسب الشارع المتوتر. ومن لا يجيد القراءة، فليتعلم من خصمه، وحتى من عدوه. لا أن يبقى أسير فكرة تجعله يهرب الى الأمام، منتقلاً من هزيمة الى أخرى، وإلى حيث يرى في الانتحار قتلاً، خياراً وحيداً للانتساب الى دار الله!