القاهرة - ليس بالهيّن على شيخ أن ينتقل من مدينة منفلوط في صعيد مصر، إلى ميدان التحرير في قلب القاهرة لمجرد أن يحيي ليلة ذِكر في حُب الثورة المصرية خلال اعتصام شهر تموز (يوليو) عام 2011.
بمخالفة كُل التوقعات، استجاب الشيخ أحمد التوني لمكالمة الناشر محمد هاشم الذي دعاه إلى مؤازرة الشباب في الميدان بالإنشاد والمدح والذكر. وقبل أن يحاول أن يصف له كيف يحبّه أولئك الشباب، كان يجيبه بالموافقة وبأنه سيصطحب الفرقة كاملة ويأتي ليملأ ميدان التحرير بصوته وروحانيات كلماته ونغمته المحببة للقلوب.
من الغريب أن ترى بمصاحبة شيخ مُسنّ مخضرم في مجال الإنشاد الديني، كل هذه الفرقة التي تجمع الإيقاعات والكمان والربابة والناي والوتريات المختلفة. ذلك لا يمكن أن يدلّ إلا على أننا أمام رجل تجاوز الشكل التقليدي لصعيدي مسن ومتديّن، ليصير فناناً عظيماً حقيقياً يهتم بإيصال رسالته بكُل دقة وبأفضل الوسائل والأدوات.
وعن رسالته تلك، قال الشيخ أحمد التوني إنّه يحمل رسالة سلام إلى العالم أجمع، رسالة سلام صوفيّة خالصة على أنغام الموسيقى تتحدى كُل أشكال التطرف والكراهية والعنف. وقد كان دائماً يتحدث عن فَضل الموسيقى على الروح، قائلاً إنّها ترقق المشاعر وترفع الروح والوجدان وتحمل المعنى للآذان، وتجمع الأحبّة إلى الجوار، ويقصد بالأحبّة هُنا الناس جميعاً.
حين كان يُسأل الشيخ التوني عن جماهيره من الغرب الذين قد لا يفهمون كلمات أناشيده ولا يعتنقون الإسلام، كان يردد دائماً بأن الصوفية شأن عام وروح راقية لا تنتقي القلوب والأرواح، بل تمس الجميع وتخص الجميع وتداعب وجدان الناس من دون تفرقة. ويضيف مثنياً على الموسيقى، قائلاً إنها تضفي الصفاء على الروح والإطراء على القلوب وتمنح السهرات وحلقات الذِّكر نوعاً من الدفء والحب.
لم يمسك الشيخ بورقة ليقرأ منها يوماً أشعاراً مما كان ينشدها على آذان المستمعين، بل حفظها سماعياً عن ظهر قلب وأباً عن جد. لم يحفظ لحناً واحداً، بل كان يعتمد دائماً على الارتجال وتوظيف تجليات فرقته بمنتهى التلقائية لخدمة الكلمات التي يحفظها ليردد على إيقاع الدف والطبلة كلمات أشعار الحلاج، وابن الفارض، وسيدي محمد أبو العزايم، مضيفاً إيقاعه الخاص بتحريك سبحته على كوبه الزجاجي. يلقي هذا الخليط في أحضان النغمة الخارجة من الكمان والناي، فيرمي على الجميع تلك الخلطة السحرية التي تعلّق قلوبهم في سقف القاعة، وأرواحهم في عنان السماء.
تلك السماء التي كان يناجيها بحاضنة الأولياء والصالحين، وجامعة الإنسان وموحّدة البشر. كما حملت سماء صعيد مصر والقاهرة نغمات الشيخ التوني، حملتها أيضاً سماء فرنسا وإسبانيا وسوريا والأرجنتين والبرازيل وتونس والمغرب. في كُل تلك الأمكنة وبالروح والشعور نفسهما، كان مولانا يغلق جفنيه على ما يرى ويطلق لروحه العنان عبر حنجرته، مناجياً القلوب، قائلاً «كل القلوب إلى الحبيب تميلُ، ومعي بهذا شاهدٌ ودليلُ».
وبين كُل هذه المحطات التي خطاها، قال إنّه ما عدا صعيد مصر، لم تتعلّق روحه بأماكن بقدر ما تعلّقت بمكانين لا يجمعهما أي صلة أو تشابه، هما مدينة طنطا في محافظة الغربية (شمال مصر) حيث مولد السيد البدوي، أحد أهم وأبرز الموالد المصرية، ومدينة مدريد الإسبانية، حيث تجربته الفريدة في مزج الإنشاد الصوفي بموسيقى الفلامنكو. كان يرتجف جسده النحيل كلما تحدث عنها وعما يشعر به كلما أطلق لروحه العنان ليطلق قصائد ابن الفارض في طياتها. بعد كُل تلك الرحلات التي ركض خلالها خلف روحه، وبعد كُل تلك الجولات التي جابت العالَم برسالة السلام والعشق والصفاء، وبعد كُل ذلك العَدو خلف نداءات القلوب لروحه، تركنا الشيخ محتضنين جسده النحيل المحبب لدينا، وانطلق بروحه إلى جوار الصالحين والأولياء الذين لطالما طاب ذِكرهم بأنفاسه وحسّه وموسيقاه. لم تكن هذه المرة رحلة قطار من الصعيد إلى ميدان التحرير، بل كانت رحلة الروح إلى عنان السماء.
حين وصل القطار بالشيخ التوني وجوقته إلى القاهرة في صيف 2011 ليحيي ليلته بين ثوار مصر، استقل سيارة وصلت به إلى شارع قصر النيل على مدخل ميدان التحرير ليستقبله الشاعر الشاب واضعاً حول رقبته «سبحة» تشبه إلى حد كبير تلك التي يمسك بها الشيخ ويداعب بها الكوب الزجاجي أثناء إنشاده، محدثاً رنة محببة للسامعين. صافحه الشاب، فمال عليه الشيخ ليسأله عن اسمه. أجابه الشاب «مايكل» ليجيبه الشيخ «مدد يا عدرا يا أم النور». تلك العبارة ظلّت تتردد على مسمع هذا الشاب حتى لحظة كتابته لتلك السطور.