في التاريخ السياسي السوري من يفشل لا ينجح في المرة الثانية. حصل هذا مع الهاشميين بعد فقدانهم دمشق إثر معركة ميسلون (24 تموز 1920) لما حاولوا استعادة حكمها بين عامي 1946 و1958 عبر مشروع «سوريا الكبرى» الذي طرحه الملك الأردني عبد الله، ثم عبر مشروع «الهلال الخصيب» الذي حاول الوصيّ على عرش العراق الأمير عبد الإله تحقيقه. ثم هذا ما جرى لعبد الناصر والناصريين بعد الانفصال، أولاً من خلال فشل شراكتهم مع البعثيين في 8 آذار 1963 ثم من خلال فشل محاولتهم لإسقاط سلطة البعث عبر المحاولة الانقلابية يوم 18 تموز 1963.
حكم هذا القاعدة السورية محاولات بعث «القيادة القومية» لاستعادة السلطة التي فقدتها في 23 شباط 1966، وكان أبرزها التنظيم المدني _ العسكري الموالي لبغداد الذي اعتقلت سلطة 23 شباط 1966 قياداته، وكوادره في أيار 1970، ثم حاكمتهم سلطة 16 تشرين الثاني 1970.
كان الرئيس شكري القوتلي الذي أطاح سلطته أول انقلاب عسكري سوري بقيادة حسني الزعيم يوم 30 آذار 1949 استثناء عن هذه القاعدة السورية لما أعيد انتخابه رئيساً للدولة من قبل البرلمان في 18 آب 1955، ولو أنه عملياً كان لا يملك سوى سلطة صورية، وكان ستارة لصراعات الأحزاب والضباط قبل أن تجري «وحدة» 22 شباط 1958 مع مصر.
كانت الهزة الكبرى التي واجهت سلطة حزب البعث هي أحداث حزيران 1979 ــ شباط 1982 التي قادتها عملياً (جماعة الإخوان المسلمين)، وقد كانت إرهاصات «عصيان حماة» في نيسان 1964 و«أحداث المولد النبوي» في نيسان 1973 ضد الدستور الجديد تدل على أن القوة الرئيسية للمعارضة السورية تسير نحو أن تكون إسلامية الطابع، رغم قوة الناصريين في فترة 1964 - 1967 والشيوعيين في 1969 – 1972. وعملياً، فإن كل القوى السياسية السورية المعارضة والموالية قد انحكمت مساراتها وسياساتها بعملية الصراع بين السلطة و«الإخوان». وحتى «التجمع الوطني الديموقراطي»، الذي تأسس على وقع هذا الصراع في الشهر الأخير من عام 1979 من قوى عروبية وشيوعية، لم يستطع في بيانه الأول يوم 18 آذار 1980، رغم طرحه خطاً ثالثاً ديموقراطياً بعيداً عن طرفي الصراع، أن يؤسس مساراً عملياً لهذا الطرح. وكانت حملة الاعتقالات ضد «الحزب الشيوعي _ المكتب السياسي» في تشرين الأول 1980 أول تعبير عن تفرغ السلطة للقوى المعارضة الأخرى بعد ميل كفة الصراع لصالحها ضد الإسلاميين منذ نيسان 1980.
ارتبط «الإخوان»، أولاً عبر «تنظيم الطليعة المقاتلة للإخوان المسلمين» الذي فجّر الأحداث من خلال مجزرة مدرسة المدفعية في حلب يوم 16 حزيران 1979 ثم «التنظيم العام»، مع بغداد التي أبعد فيها صدام حسين الرئيس البكر في 16 تموز 1979 عقب شعوره بالقلق على مركزه الشخصي من إجراءات الوحدة السورية _ العراقية البادئة منذ الخريف السابق، وبعدما أحسّ ولمس بداية ارتدادات الزلزال الإيراني على الداخل العراقي إثر وصول الخميني (المتقارب مع دمشق) إلى السلطة في طهران في شباط 1979. كانت ارتباطاتهم مع الأردن واضحة أيضاً، ثم مع تركيا بعد انقلاب الجنرال كنعان إفرين يوم 12 أيلول 1980. كان الدعم الخارجي الإقليمي الذي تلقّاه «الإخوان»، مرفوقاً مع استخدام العنف المسلح من قبلهم، عاملاً أساسياً في اصطدام الإسلاميين بحائط صلب بعدما أدى هذا وذاك إلى توليد جبهة إقليمية ودولية امتدت من موسكو وواشنطن وباريس، وصولاً إلى الرياض وطهران، استندت إليها السلطة السورية المعتمدة على تأييد داخلي قوي في الأرياف ومدن دمشق ودرعا وحمص والرقة ودير الزور والحسكة، وفي ظل أوضاع اقتصادية غير مأزومة. عملياً، قادت المجابهة التي سار فيها «الإخوان» ضد السلطة السورية إلى تحطمهم التنظيمي وإلى كلفة عالية دفعتها القوى الاجتماعية التي استندوا إليها في مدن حماة وحلب واللاذقية وفي بلدات محافظة إدلب موتاً وسجناً ونفياً. ثم دفعتها مجمل القوى السياسية السورية المعارضة كتداعيات من تلك المجابهة، التي كان من نتائجها أيضاً دخول المجتمع السوري في صمت سياسي معارض امتد من آذار 1982 حتى ما حصل في درعا يوم 18 آذار 2011 مع بقاء جزر سياسية لتنظيمات معارضة اشتغلت من أجل الحفاظ على الذات، في ظل انكفاء اجتماعي عن السياسة جعلها في وضعية السمك خارج الماء.
أصبح «الإخوان المسلمون» تنظيماً سورياً خارج الحدود منذ آذار 1982: اختار الصوفيون، بزعامة مفتي الجمهورية الشيخ أحمد كفتارو وهو شيخ الطريقة النقشبندية، والمشايخ التقليديون مثل الشيخ محمد سعيد رمضان البوطي وهو من أتباع المذهب الأشعري الذي يرى «الخروج» على الحاكم «فتنة أشد ضرراً من القعود» _ الوقوف مع النظام ضد «الإخوان» مقابل الحصول على مكاسب اجتماعية _ ثقافية _ تعليمية _ قانونية للمؤسسات الدينية ولمجمل ما يمكن تسميته «الإسلام التقليدي» الذي كان بعيداً عن السياسة والتسيس، والذي كان يرى تلك المكاسب تفيد أكثر مكانة الإسلام في سوريا بالقياس إلى ما يمكن أن يقدمه «الإسلام السياسي» الذي كانوا يعتبرونه مغامراً وذاهباً إلى التهلكة. استفاد الوهابيون في سوريا في الثمانينيات والتسعينيات من التقارب السوري _ السعودي، وكانت السلفية آنذاك حركة دعوية وغير مسيسة، قبل أن يقوم ابن لادن في شباط 1998 بمزج السلفية مع «جهادية» أيمن الظواهري، المتأثر بسيد قطب، عند تأسيسهما «تنظيم قاعدة الجهاد». برزت «السلفية الجهادية» في سوريا مع ظرف ما بعد احتلال العراق من قبل الأميركان عام 2003، وكان توجهها نحو العراق وليس نحو الداخل. عند انفجار الأزمة السورية، منذ درعا في يوم 18 آذار 2011، تحول الكثير من حاضنات الإسلام الثقافي الدعوي التقليدي إلى تفريخ «الإسلام السياسي» الذي ظهر ثانية بوصفه الأقوى بين المعارضين السوريين، وفي خلال ثلاث سنوات من درعا ظهر بأن «السلفية الجهادية» كانت أقوى التعبيرات بين المعارضة السورية بإسلامييها وعلمانييها وكانت أقوى من الحركة الإخوانية، على الأرجح بسبب الحاضنة الاجتماعية الريفية للحراك السوري وفي الأحياء الفقيرة من المدن، وأغلب قاطنيها من الوافدين الريفيين، فيما كانت الحاضنة الاجتماعية التقليدية لـ«الإخوان» السوريين مدينية في فترة 1945 - 1982. كان الطابع السلفي للإسلام السياسي السوري في أعوام 2011 - 2014 مساهماً أكثر في الانزلاق الأيديولوجي _ السياسي _ العملي في العنف. وربما كان طريق «أبو خالد السوري» من «تنظيم الطليعة المقاتلة» إلى «تنظيم قاعدة الجهاد»، وصولاً إلى «الجبهة الإسلامية» يوضح ذلك. ولو أنه يجب أن يضاف إلى ذلك تأثر مروان حديد وأيمن الظواهري بسيد قطب وتأثر ابن لادن بالإخواني الفلسطيني عبد الله عزام المتأثر أيضاً بقطب، ومن دون هذا لا يمكن تفسير استخدام مصطلح «الحاكمية» في ميثاق «الجبهة الإسلامية» ذات الطابع السلفي الغالب على فصائلها. خلال أزمة 2011 – 2014 وحتى أيار 2013 عندما سحبت واشنطن إدارة الملف السوري من أيدي أنقرة _ الدوحة، قبيل قليل من سقوط الأمير القطري والرئيس مرسي، كان نفوذ «الإخوان» في المعارضة السورية يأتي من عامل خارجي، لا من قوتهم في الداخل السوري، وقد أصبحوا الطرف الأضعف في «الائتلاف» بعد التوسعة التي رعتها واشنطن والرياض في نهاية أيار 2013.
كما فشل الإسلام السياسي السوري بطبعته الإخوانية في 1979 – 1982، فإن الإسلام السياسي السوري بطبعته السلفية _ الجهادية قد فشل في 2011 - 2014: الفرق بين التجربة الأولى والثانية أنه كان هناك في الأولى تعويض عن فشل «الإخوان» بمكاسب نالها «الإسلام التقليدي» في حقول الثقافة والتعليم والقانون والتشريع وفي نمو حاضنة اجتماعية كبرى للتدين، فيما نرى الآن في سوريا عام 2014 بدايات نقمة كبرى في الوسط السني السوري الاجتماعي على الإسلام السياسي بكل أشكاله وطبعاته بسبب حصيلة ما جرى في السنوات الثلاث السابقة، وبسبب ممارسات الإسلام السياسي في المناطق والبلدات والمدن التي سيطر مسلحوه عليها. سيكون لهذا بالتأكيد ترجمات اجتماعية _ ثقافية _ أيديولوجية _ سياسية كبرى في سوريا القادمة باتجاه انتعاش جديد لليسار والعلمانية وضعف وانحسار للإسلام السياسي ولموجة التدين البادئة في سوريا منذ أواسط السبعينيات. يأتي هذا بالتزامن مع سقوط تجربة الإسلام السياسي المصري في 3 يوليو 2013 التي توازي بمكانتها عند الحركة الإسلامية العالمية ما كانته التجربة السوفياتية بالنسبة إلى الحركة الشيوعية قبيل وبعيد سقوطها عام 1991، وربما كانت التأثيرات لذلك السقوط في القاهرة على الإسلاميين أقوى من ذاك الذي جرى في موسكو على الشيوعيين.
* كاتب سوري