يشهد عالم الهواتف الذكية اليوم موجة قوية من التقنيات التي لا تقدم جديداً من حيث الخدمات، لكن تشهد إقبالاً شديداً من المستخدمين فقط لأنها تحمي خصوصيتهم بشكل أفضل. في الأيام الأولى بعد شراء «Facebook» لـ«Whatsapp» لقاء 19 مليار دولار، سجّل برنامج Telegram، وهو نسخة مشفّرة من Whatsapp نحو مليون منتسب جديد يومياً، وهو ثلاثة أضعاف ما كان يُسجّل قبل ذلك، متصدّراً لائحة تطبيقات الآيفون المجّانية في 48 دولة.

وتضاعف كامل عدد مستخدمي برنامج Threema المشابه في يوم واحد، متصدّراً لائحة البرامج المدفوعة في دولة كألمانيا. المشترك في هذه البدائل أنها تسوّق نفسها على أساس أن الرسائل يمكن قراءتها من قبل المستخدمين فقط؛ إذ لا تملك الشركة مفاتيح التشفير، وبالتالي لا تستطيع الحكومات خرق الخصوصية عبر الشركات.
وإن كان بالإمكان توفير تطبيقات آمنة منفردة للمستخدم، فإن الخطوة الأبرز التي حصلت أخيراً هي إطلاق هواتف مجهّزة عند البيع بالعديد من تقنيات وتطبيقات الأمان والخصوصية. هاتفان أُعلن عنهما في مطلع الأسبوع الماضي، هما Blackphone من شركتي Geeksphone الإسبانية و Silent Circle الأميركية، و Boeing Black من شركة الطائرات Boeing.

مواصفات الخصوصية

أهم خصائص Blackphone إمكانية تشفير المكالمات والرسائل النصية مع أي مستخدم آخر لهذا الهاتف أو مع من لديه تطبيقات Silent Circle (المدفوعة)، أي إنّه يمنع التنصّت على محتوى المكالمة من أي جهة خارجية، كالدول والشركات. وكذلك فهو يشفّر الأسماء والأرقام على الجهاز، ويوفّر خدمة آمنة لحفظ الملفّات على الإنترنت عبر SpiderOak. ومن جهة أخرى، فإنه يتيح للمستخدم أن يتحكّم بما تحصل عليه جميع البرامج من معلومات، بعد تحميلها، كمكان الشخص أو معارفه، عبر الـSecurity Center، وأن يمحو كل المعلومات على الهاتف عن بعد في حال سرقته أو إضاعته عبر الـ Remote Wipe، والتصفح الآمن عبر تقنية الـ VPN.
أمّا Boeing Black، فإنه يختلف بأنه لا يركّز على البرمجيات بل على عناصر الجهاز (Hardware)، موفّراً الحماية من اختراق الجهاز حتى ممّن يحصل عليه؛ فبمجرّد فكّ البرغي الأول من الهاتف، تُمحى محتويات الجهاز تلقائياً! يُمكن أيضاً إعداد الهاتف لمنع بعض البرامج من العمل حسب المكان مثلاً، كمنع الكاميرا من التصوير في أماكن سرّية. وبالتالي يبدو أكثر توجّهاً نحو نوع خاص من المستخدمين، محاولاً جذب موظفّي الحكومات من خلال إمكانية استخدام شريحتين، واحدة للشبكة الخاصة والأخرى للاستخدام الشخصي، ومن خلال إتاحة إمكانية توصيل عناصر إضافية كالاتصال عبر الساتلايت.

تبديد الوهم

على الرغم من الترويج لهذه الهواتف على أنها تحسّن من خصوصية المستخدم، إلا أنها لا تقدَّم على أنها تمنع الحكومات كلياً، وخصوصاً وكالة الأمن القومي الأميركية (NSA)، من التجسس. الأساس أنها تعطي الشخص العادي الخيار لاستخدام الوسائل الآمنة دون الحاجة للتعمّق في الدقائق التقنية، وهي تحاول حماية خصوصيته عبر عدم الاحتفاظ بالمعلومات عن اتصاله إلا لوقت قصير. لكنها لا تمنعه من تنزيل البرامج التي تستثمر معلوماته الشخصية إن أراد هو ذلك. ومن المعروف أن تلك الوكالات تجمع المعلومات أيضاً عبر برمجة تطبيقات جذابة للمستخدمين. ومن الناحية القانونية، بإمكان الـ NSA أن تطلب من الشركات سرّياً الحصول على اتصالات أشخاص معيّنين، وهي، وإن استحال حصولها على المحتوى المشفّر في هذه الحالة، لكنها تستطيع البناء على حركة الاتصالات (Metadata).

تغيّر النموذج الربحي

من أهمّ ما بيّنته الأحداث الأخيرة من فضائح تجسّس ومن استحواذ للشركات، أنه هناك فرصة لنموذج ربحي جديد لا يكون فيه الناس ومعلوماتهم هم المنتج الذي يُستثمَر مقابل الخدمات. فقد زاد الوعي حول أنه لتحصل على الخدمة عليك أن تدفع، وبات هناك شكّ في كل خدمة مجانية حتى تبيان مصدر ربحها. هذه هي الحال مع تطبيق Telegram الذي حتى الآن لم يكشف عن خططه لجني الأرباح، وقد يكون أحدها عبر بيعه لشركة أخرى. من جهة أخرى، فإن هاتفاً مثل Blackphone يباع بسعر 629$، وهو بسرعة وسعة أقل بكثير من أي هاتف في هذا النطاق، لكن الزيادة هي لقاء خدمات الخصوصية؛ إذ اكتشفت الشركات استعداد الناس لشراء تطبيقات تمنح الخصوصية حتى ولو توافر البديل المجاني (كما في حالة Threema و Whatsapp).
قد يبدو كلّ ما سبق هو اختراع لحلّ عبر الهواتف الذكية لمشكلة أنتجتها الهواتف نفسها، أي إننا ندفع لتلافي التعرّض لحياتنا الشخصية وليس لخدمة معيّنة. لكن حتى مع ذلك، فإننا ما زلنا بعيدين عن الحلّ. فأي تشفير لمكالمة أو لرسالة يحتاج إلى طرفين، وهو ما لا يوفره هاتف يشتريه الشخص لنفسه، دون أن يملك الآخرون مثيله. وبالتالي، إن تأمين خصوصية المجتمع بالكامل لن يحصل بسهولة قبل أن يصبح الأمان هو الأساس في معظم الهواتف، وخاصة عندما يدخل عمالقة التصنيع مثل Apple و Samsung و Nokia في هذا المضمار. حتى ذلك الحين، قد تنحصر الهواتف «المصفّحة» في دوائر مغلقة ومجموعات أولويتها الخصوصية.








عالم ما بعد سنودن

يرمي المنتجون الى الاستفادة من السوق التي صارت تعرف بإدارة أمن الهواتف المحمولة، والتي قدر البعض قيمتها بنحو 560 مليون دولار في 2013، ومن المتوقع أن تصل إلى مليار دولار بحلول 2015، بحسب تقديرات شركة ايه.بي.آي للأبحاث. وأثار إدوارد سنودن ضجة في أنحاء العالم، حين أبلغ الصحف العام الماضي أن وكالة الأمن القومي الأميركية تجمع بيانات شخصية عن المستخدمين من شركات مثل غوغل وفيسبوك وسكايب في إطار برنامج سري. وأظهرت تسريبات أخرى، كشف عنها سنودن المتعاقد السابق مع وكالة الأمن القومي ـــ الذي يواجه تهما بالتجسس في الولايات المتحدة، وحصل على لجوء مؤقت في روسيا ـــ أن واشنطن راقبت محادثات هاتفية لنحو 35 زعيما في أنحاء العالم، من بينهم المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل. لكن خبراء الأمن يقولون إن من شبه المستحيل ضمان الخصوصية التامة. فكل هاتف مزود بجهاز إرسال رقمي، يمكن تتبعه. والبيانات المتعلقة بهوية المتصل ومتلقي الاتصال يمكن أن تكون بالأهمية نفسها لمحتوى المكالمات.