ليس في العلاقات الدولية عواطف وأخلاق. فيها مجرد مصالح. انطبق الأمر تماماً على التفاهم الغربي ـــ الإيراني. لم تنفع كل ضغوط إسرائيل، ولا نفع كل المال والضغط الخليجيين في ثني واشنطن عن التقارب. المبدأ نفسه سينطبق قريباً على علاقة الغرب بسورية. هكذا يبدو من التسريبات الأخيرة.
في هذه التسرييبات، أن مسؤولاً أميركياً التقى أخيراً أطرافاً معارضة سورية ناقلاً الآتي:
أولاً، يجب أن تنسوا أن تنحّي الاسد سيتم قبل «جنيف 2». ربما عليكم التعايش مع بقائه لفترة غير قصيرة في انتظار نتيجة المفاوضات التي سيجري بعضها علانية في جنيف، وكثيرها بعيداً من الاضواء في الاتصالات الاميركية ـــ الروسية والاميركية ـــ الايرانية.
ثانياً: التفاهم الايراني ـــ الغربي جدّي أكثر مما يعتقد البعض. لا بد، إذاً، من الاعتياد على فكرة أن تلعب طهران دوراً في المفاوضات الاقليمية والدولية في شأن سورية. لا يمكن مطلقاً التوصل الى أي نتيجة في سورية إذا شعرت إيران بأن ذلك يهدد مصالحها. طهران تساعد كثيراً في مكافحة الإرهاب حالياً.
ثالثاً: إن الجيش السوري يؤدي دوراً بارزاً في مكافحة الارهاب العالمي. من الأفضل إيجاد صيغة سريعة للتوصل الى تفاهم بين هذا الجيش و«الجيش الحر» والأطراف المعتدلة في صفوف المسلحين. هذا بات مطلباً غربياً ملحّاً خشية توسيع قاعدة الارهاب. أعلن وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف ما اتفق عليه مع الاميركيين قبل فترة: «على السلطة والمعارضة الاتفاق على آلية لمكافحة الارهاب».
رابعاً: يجب تجنيب لبنان انعكاسات الإرهاب وعدم نقل المعركة إليه لسببين؛ أولهما رغبة الغرب في تحييد البلد وحمايته، وثانيهما لأن نقل المعركة اليه يعني تحويل الانظار عما يحصل في سورية. النصيحة نفسها أُسديت الى الذين كالوا في لبنان الاتهامات ضد الجيش في الفترة الاخيرة.
مورست ضغوط فرنسية كثيرة في الآونة الاخيرة على واشنطن حيال لبنان. موقف باريس يقول بضرورة التجديد للرئيس ميشال سليمان، وإن على واشنطن إقناع إيران بذلك. طهران ليست مقتنعة. تترك الامر عادة لحليفها حزب الله. الأسد أيضا يتركه للسيد حسن نصرالله.
اعترض بعض الحضور على الكلام الأميركي. سأل أحدهم: هل هذا يعني أن واشنطن والغرب باتا قابلين باستمرار الاسد في السلطة؟ الجواب واضح: «لم يغيّر الرئيس أوباما رأيه في ضرورة تنحّي الاسد، ولكن من الأفضل أن يكون ذلك نتيجة المفاوضات والانتخابات وليس عبر عمل عسكري خارجي أو من خلال الحرب. لا بد من حل سياسي، هذا صار محور توافق دولي. ثم إن الاولوية الآن هي لمكافحة الارهاب». اقتناع واشنطن أن المعارضة فشلت في تشكيل قوة عسكرية غير مقلقة، فتركت الساحة لـ«داعش» و«النصرة» وتوابعهما.
وصلت هذه التسريبات الى من يعنيهم الأمر. جاء الرد من السفير السعودي في بريطانيا. قال محمد بن نواف بن عبد العزيز آل سعود في مقال نشرته «نيويورك تايمز» أمس: «إن السعودية ستقوم بكل ما بوسعها، بدعم أو من دون دعم شركائنا الغربيين. سنستمر في دعمنا للجيش السوري الحر والمعارضة، ويجب ألا تصبح عمليات القاعدة سبباً لعدم التحرك». لا تحتمل السعودية خسارة دورها في سورية. قطر احتملت وغيّرت. قال السفير القطري كلاماً مهماً لقادة حزب الله. لن يسرّب شيء عن ذلك. لن يسرّب أي شيء أيضاً عن الوساطة التي يؤديها الكاتب الكبير محمد حسنين هيكل بين إيران ومصر عبر الحزب.
الصحيفة نفسها طرحت قبل فترة السؤال الآتي: «هل ينبغي على الولايات المتحدة مواصلة النظر الى المملكة العربية السعودية باعتبارها قوة تساعد على إرساء الاستقرار في المنطقة، أم حليفاً خطيراً ستفضي سياسته الى مزيد من سفك الدماء والقمع...؟». كانت الصحيفة تشير خصوصاً الى دور السعودية في قمع الإخوان المسلمين في مصر ودعم الخيار العسكري.
هو «كلام صحف» سيقول البعض. هذا صحيح، ولكن الأصح أن ثمة مناخاً عاماً في أميركا بات قابلاً، لا بل مشجعاً، للتقارب مع إيران، يقابله تعاظم الاستياء من أدوار دول كالسعودية وقطر. المناخ نفسه ينسحب على تركيا التي تستقبل بعد أسابيع قليلة الرئيس الايراني حسن روحاني. رجب طيب أردوغان غرق الآن في فضيحة الفساد التي تهزّ حكومته.
لن تجد تركيا في الوقت الراهن أفضل من إيران لتحسين وضعها في المنطقة. لن تجد إيران أفضل من تركيا حالياً لوقف إرسال السلاح والمسلحين الى سورية. لن يجد الطرفان أفضل من تقاربهما للضغط المتبادل على السعودية. أليست أنقرة والرياض في حالة عداء على الاراضي المصرية حالياً بسبب الإخوان المسلمين؟
قطعت طهران شوطاً جديداً في التقارب مع دول الخليج. استأنفت أمس الرحلات مع البحرين. أليس غريباً أن تستأنفها مع دولة تعتبر المجال الامني للسعودية حيث انتشرت «درع الجزيرة» لمنع سقوط النظام؟
خيوط اللعبة باتت أكثر وضوحاً. التصعيد الحالي بين روسيا والغرب بسبب أوكرانيا أعاد الخطاب الناري للرئيس فلاديمير بوتين الى الواجهة: «إن المعضلة النووية الايرانية تتلاشى والدرع الصاروخية باقية في مكانها، هذا مرفوض». لافروف يلوّح بيده: «إن عقلية الحرب الباردة لا تزال متحكمة في البعض في دول الأطلسي».
من الصعب مجرد التفكير في أن واشنطن ستزيد الهوة مع موسكو في هذه الفترة العالمية الحساسة. لا بد من الضغط على الحلفاء الأوروبيين لتخفيف الضغط عن أوكرانيا. لا بد من الإبقاء على خيط التفاهمات موصولاً. في هذه التفاهمات ليست موسكو وطهران في وارد التخلي عن الحليف السوري. في سياق هذه التفاهمات، أيضاً، يستمر تقاطر المسؤولين الامنيين الغربيين الى سورية. لعل رفع المستوى الى مسؤولين دبلوماسيين لن يتأخر... يبدو أنه لن يتأخر.
ليس في السياسات الدولية أخلاق وثوابت، فيها مجرد مصالح. من كان يتصور أن المعارض الشيوعي السوري البارز ميشال كيلو سيصبح أبرز حلفاء السعودية والغرب، ويلعب الدور الأبرز في ضرب الإخوان المسلمين داخل الائتلاف قبل ذهابه الى الرياض وبعده. السياسة مصالح. ليس إلا.
8 تعليق
التعليقات
-
التركيز على المكاسب ام تعظيم المنافعمن قواعد التفاوض الأساسية التي يعرفها ، ويمارسها الكبار في لعبة الأمم ، القاعدة التي تقضي بالتركيز على المكاسب ، وليس على المواقف . فمن أجل الحصول على تفاهم مرضي ، وللوصول إلى حل متعقل ، على اللاعبين الكبار القيام بعملية توفيق بين المصالح لا بين المواقف . لان المواقف الخلافية تستند إلى إشكاليات واشتباكات مختلفة ، لا يمكن حلها بالحوار ، كونها تتعلق بالمنظومة الثقافية والمنطلقات الفكرية لكل طرف . لكن هناك أموراً مشتركة ، ومنافع متبادلة ، لا بد من استكشافها وتحديدها ، وتوجيه التفاوض نحوها ، لأنها بالمحصلة تحقق المصلحة المشتركة فيكسب الجميع . في هذا السياق يعكس تكتيك الأمريكان بهذا الوقت إلى حد بعيد تركيزهم على هذه القاعدة ، والعمل وفقها . لكن لتعظيم مكاسب الجميع ولتكون النتائج أفضل على مستوى التفاهمات الدولية ، يجب النظر من قبل جميع اللاعبين خاصة الكبار منهم ، إلى المسائل المطروحة ، باعتبارها سلة واحدة متكاملة ، عندها يأتي الحل كتسوية شاملة لكل المشكلات أو لمعظمها على الأقل . أما ما يمكن أن يكون مقلقاً إلى حد كبير ، فهو أن يكون فعل المفاوض الأمريكي لا يعدو عن كونه مناورة جديدة يحاول من خلالها فصل المشاكل عن بعضها ، وفق مصالح ضيقة وآنية ، لإحكام التفرد بكل طرف على حدة بهدف إضعافه ، ومن ثم الحصول على مكاسب أكثر ، كان ليس بإمكانه تحقيقها لو أن التفاوض اتخذ شكلاً جامعاً .
-
خيوط اللعبةكلام يدل على حسن إدراك صاحبه للأمر الواقع التي تعيشه المنطقة والساحة الدولية بشكل عام... من أعمق وأدق التحاليل السياسية التي قرأتها في الصحافة العربية في هذه الأيام! أكاديمي وعامل في مجال ’الأمن الإستراتيجي الدولي‘
-
تضليلفي خلط أمور بالمقالة بهدف أخذها في منحى معين! ضرب الجيش السوري للإرهاب أمر مرحب به و إنشاء الله ينهي المهمة قريباً و لكن لماذا ربط هذا الأمر مباشرة بالأسد؟ لماذا الإيحاء و كأن الظابط الوحيد في الجيش السوري القادر على اصدار هكذا أمر هو بشار الأسد؟ أي ظابط علماني في الجيش من رتبة لواء أو أعلى قادر على أن يصبح القائد العام للجيش و القوات المسلحة السورية و أن يصدر هكذا أمر. كفا ربط كل شاردة و واردة بالأسد شخصياً و كأن أرحام السوريات لم و لن تنجب له مثيلاً! سورية لن تتمكن أبداً من إستغلال طاقاتها البشرية بوجود هذا النظام لأنها في الخارج بسبب قمع و تهجير النظام لها لإبقاء فقط جماعة ال "حاضر سيدي" و "سورية قليلة عليكم. إنتوا يجب أن تحكموا العالم سيدي"!
-
مصالح و لكن ....هي مصالح و لكن ليس هناك دائماً تناقض نهائي بين المصالح و الأخلاق. مكارم الأخلاق هي المصلحة القصوى عند أصحاب المروؤة لمن يعي. عندما شنّ صدام حسين حربه على إيران لم تكن مصلحة سوريا الآنية في ذلك الوقت الإصطفاف إلى جانب إيران (لكل الأغبياء: أحداث الثمانينات كان ثمن ذلك الموقف بالإضافة الى الموقف من كامب ديفيد). كذلك في ٢٠٠٣ لم تكن مصلحة سوريا الآنية في رفض مطالب كولن باول. فيا عزيزي سامي المصلحة القومية هي الأساس عند الدول التي تحترم نفسها و منها ايران الثورة و سوريا الأسد (نعم سوريا الأسد و لو كره الكارهون) و لبنان بشقه المقاوم. عاطفياً انا امتعض من لقاءات حزب الله مع القطريين و لكن أدرك ان هناك مصلحة ستستفيد منها المقاومة، لا أن هناك مساومة على مبادئ المقاومة، ربما هناك خيراً من مقابلة "الجزيرة" مع "أمير النصرة"، على ما يبدو أيام الجولاني صارت معدودة :)