قدسيا | لا يزال الدخول إلى قدسيا البلد (غربي دمشق) صعباً. حاجز الصفصاف مغلق أمام السيارات. لا يمكن زيارة المدينة «التائبة» إلا سيراً على الأقدام عبر هذا الحاجز. إنّها شروط التسويّة. عادت الأفران الى إنتاج الخبز بكثافة. شاحنات الخضر توزّع تحت إشراف «اللجان الشعبية»، بأسعار مقبولة. في قدسيا تترجم المصالحة بعودة الأهالي مجدداً إلى بيوتهم، شرط ألا يحتضنوا أي عناصر مسلحين. تعيش منطقة الهامة، شمال قدسيا، الأجواء نفسها. أمّا «المكافأة»، فهي التوقف عن اعتقال المعارضين، والسماح للسيارات بالدخول عن طريق الضاحية (ضاحية قدسيا) فقط. عدد كبير من أصحاب المحال التجارية متخوفون من تعثّر التسوية. بعضهم تشجع وأعاد فتح محله، لكنّه دخل في لعبة الاحتكار فلاحقته «اللجان الشعبية». ومنهم من قرّر الانتظار، ريثما ينهي كل من مفتي ريف دمشق السابق الشيخ عدنان الأفيوني، وإمام مسجد الصحابة الشيخ عادل مستو تسليم ما تبقى من العناصر المسلحين والمطلوبين «لتسوية أوضاعهم وكتابة تعهدات بعدم إثارة الشغب والفوضى والتظاهر وحمل السلاح عشوائياً»، بحسب ما يروي أهالي المنطقة.
في ساحة قدسيا، يجتمع الناس يومياً بالمئات. ينتظرون وصول شاحنات الخضر المدعومة من الدولة، التي يشرف عليها بعض عناصر «اللجان» من أهل المنطقة.
«آخر بنود التسوية الإفراج عن المعتقلين السياسيين في سجون النظام والتوقف عن خطف الموالين للمعارضين والعكس»، يروي أبو أيوب، أحد سكان قدسيا، لـ «الأخبار». جاره عطية يحتفل بالتسوية على طريقته: «يوزَّع لكل عائلة يومياً بـ25 ليرة خبز مجاناً! حوالى 14 رغيفاً كبيراً... شو بدنا أحسن من هيك».
عندما وصل الصراع إلى لقمة العيش وتهديد المسكن، حاول كثيرون إقناع المسلحين بأنّ المنطقة لا تحتمل اجتياحاً آخر للجيش السوري، فبقي الموضوع معلقاً لمدة شهر حتى نضجت التسوية.
إذاً على ما يبدو، هي لعبة «تبديل طرابيش»، فالمسلحون الذين لم يعد لهم عمل «ثوري» في المنطقة، سيمثّلون الدولة على هيئة «لجان شعبية». أمّا المعارضون الذين لم يحملوا السلاح، فهم ليسوا معنيين بالتسوية، وربما سيلاحقون أمنياً إذ «ليس هناك الآن من يمثل المعارضة جدياً، وتحولت المنطقة إلى مركز إيواء كبير، وعرف النظام كيف يروّض بعض المتمردين ضده»، يقول المعارض موسى الكفري.
همّشت المعارضة وفشل المقاتلون في خلق مناخ مختلف في عدائهم للدولة، وبات التخلص منهم همّاً ورغبة أهلية. «اتفق جميع الأطراف على طرد المقاتلين المعارضين ممن لم يسلّموا أسلحتهم، المنطقة لا تحتمل معارك إضافية، نحن ننفذ رغبات الأهالي والقانون»، يؤكد «أبو الفضل»، الذي يمثّل صلة الوصل بين مسلحي الهامة ولجان المصالحة في قدسيا. وتبقى الخشية من محيط قدسيا. فالتسوية لا تنصّ على أن ينزع سلاح سكان حيّ الورود ومساكن الحرس، لأنّ قسماً من هؤلاء موظفون في الأمن والجيش و«اللجان»، والقسم الآخر موالٍ مسلح، وذلك ما دفع وفداً من لجنة المصالحة للتوجه إلى وجهاء تلك الأحياء لضبط مشاكل الخطف والقنص.
شاب فلسطيني قاتل في صفوف «اللجان الشعبية» رأى أنّ «التسوية التفاف على الهدنة، فالذين قتلوا وجرحوا رفاقنا وقصفوا منازلهم، سيصبحون طلقاء».
ويؤكد الشيخ أبو منصور، وهو أحد المبادرين الى المصالحة، أنّ «من يعدّ هذا استسلاماً، يجرّ الناس إلى الموت والجوع والدمار. سنقف ضد كل من يحاول خرق التسوية».
لكن الأمر يبقى مختلفاً بالنسبة الى المقاتلين «الموالين»، إذ إنهم بحكم المنتصر، وحاضنتهم هي التي فرضت التسوية.
«أيام الحصار، كان يُعاقب ويهان، على الحواجز، كل من يدخل أكثر من ربطة خبز واحدة، أو مبلغاً أكبر من ألف ليرة سورية»، يقول مظهر كيلاني، الطالب الجامعي الذي يقيم عند أحد أصدقائه «خوفاً من اقتحام مفاجئ لاعتقال شباب قدسيا الذين يعدهم النظام مطلوبين، لاحتضانهم مسلحين ضد الدولة. هؤلاء ربما خارج التسوية!».
وعلى صعيد الانتاج المحلي، يبقى مصير بعض المؤسسات كمعمل بردى للبيرة مجهولاً. فجزء من المعمل محروق، وقد سرقت معظم آلاته، بينما نهبت المؤسسة الاستهلاكية العامة منذ أشهر.
وتبقى مسألة العبور من مدخل قدسيا الرئيسي عالقة حتى تؤمّن المنطقة تماماً، وسيفتح الطريق هناك للسيارات قريباً، ولا يسمح بإدخال أو إخراج أي قطعة أثاث أو مواد بناء. والطريق الأسهل لدخول المدينة مكلّل بالحواجز، حيث المشكلة، بحسب الأهالي، هي «أنّ كلفة المواصلات وإضاعة الوقت مضاعفة بالنسبة إليهم، بسبب استمرار اغلاق المدخل الرئيسي».