إلى اللقاء يا بديعة
بديعة الاعور بالنظارات  تاكل كاتو  عيد ميلاد فيروز مع جمع من الفرقة خلال الإحتفال في الأردن بدعوة من الملك حسين الست بديعة الاعور والسيدة فيروز

هي رفيقة عمر السيدة فيروز. منذ الفستان الأول الذي صممته الخياطة الأشهر يومها صالحة ونفذته هي، حتى آخر ذيل فستان رفعته خلف السيدة لئلا يعلق بخشب المسرح، كما كنت قد شاهدتها تفعل في آخر حفلات في بيت الدين. أمس، أفلتت بديعة الأعور، خياطة وصديقة عمر السيدة فيروز، يدنا. كانت تحضر نفسها لذلك منذ فترة، وتحضرنا.

كنت قد واظبت على زيارتها في السنوات الأخيرة بوتيرة شبه أسبوعية، متحرقة، في كل مرة، للجلوس إليها على البلكون المطلّ على شارع ليون، لسماع أقاصيصها عن يوميات عمرها مع السيدة فيروز. تاريخ طوييييل ... مشغول بحكايا وقصص ونوادر و«ضروبة» لا أحد يعرفها مثل ما تعرفها بديعة، رفيقة الدرب الطويل، والخياطة الموهوبة التي خاطت ملابس مهرجانات لبنان وبابو لحود وحرس التشريفات الجمهوري، إضافة الى ملابس السيدة فيروز التي كان يصممها كبار المصممين وهي تقوم بتنفيذها، إضافة الى ملابس الفرقة.
بيتها، بيت خياطة. الدبابيس المشكوكة في تكايات قماشية صغيرة، الدانتيل، المازورة المعلقة، الموديلات، وبالطبع مكنات السنجر التاريخية.
تتذكر «بدّوع»، كما تدلعها فيروز، كيف أن عاصي الرحباني أراد أن يمازح فيروز مرة، فما كان منه إلا أن ألبس بديعة ثوب المهرج الذي كان مخصصاً لإحدى الشخصيات في المسرحية، وجعلها تظهر هكذا، فجأة أمام الست على خشبة البروفات. تضحك بديعة كثيراً وهي تتذكر كيف فوجئت "الست" بمنظرها «وصارت تضحك وتضحك تنزلوا دموعها» كما كانت تقول.
تتذكر أيام غرام عاصي وفيروز الاولى، وكيف كانا يترافقان معاً من عندها، نزولاً صوب الإذاعة اللبنانية القريبة، يداً بيد. تتذكر طفولة زياد وريما وهلي وليال، تتذكر أحزان الست، وفاة والدتها ليزا، ووفاة ليال وعاصي «الكبير». كانت تقول "هيداك كان غير شكل". تفتكر تلك الأحزان كأنها أحزانها هي، هي التي كانت تعلق سلسلة ذهبية في عنقها كتب على أحد وجهيها كلمة «الله»، وعلى الثاني «فيروز». كانت، كأي عاشق، تعرف كل شيء عن معشوقها، أما بالنسبة إلى فيروز؟ فقد كانت أماً بعد وفاة والدتها ليزا بستاني.

تعرف بديعة كل الأسرار، وإن جاز الكلام عن «ناطورة مفاتيح» ما في أمة الرحابنة؟ فهي بديعة. خازنة الأسرار وليس الملابس فقط. أسرار لم تبح بها وذهبت معها الى مثواها الأخير.
كانت الشخص الأخير الذي تراه فيروز قبل خروجها الى المسرح، الى أن انتُزع منها هذا الدور لكبر سنها والخوف عليها من السقوط والتعثر في عتمة الكواليس.
كانت بديعة كائناً استثنائياً، من أولئك الذين يصنعون عالم المسرح والفن، ويبقون مجهولين. لم تكن فقط صانعة ملابس، تدوزن الثوب بغرزة من هنا أو ثنية من هناك، كانت «تحفظ» جسد فيروز وتغيّراته، كانت فيروز كل عالمها، لا يستقيم النهار بدون الاتصال عند الثالثة من بعد الظهر واحياناً باتصال آخر في آخر الليل. ما إن تستفيق الست وتصبح جاهزة للكلام، حتى تتصل ببدوع. بعدها تبدأ بديعة سلسلة اتصالات: «احكي الست» أو «قالولي فلان مريض؟ صحيح؟ معك رقم التلفون؟». أو «في إلك غرض عندي» وخاصة قبل أعياد الميلاد ورأس السنة. فقد كان منزل بديعة مستودع الهدايا الى الست، ومنها، أي تلك التي ترسلها كل سنة قبل الأعياد الى مجموعة من الأصدقاء.
كثيرون لا يعلمون أنه كانت لبديعة أخت عملت أيضاً مع فيروز، لكنها توفيت منذ زمن طويل. لكن وفاة رؤوف أخوها الأصغر، وهو مثلها لم يتزوج، كانت أكثر من قاسية. هذا الموت جعل بديعة تهرم فجأة خاصة بعد رحيل أخيها الآخر معروف، اخر الأحياء من عائلتها الصغيرة.
قبل ذلك بسنوات، كنا بدأنا نخاف عليها خلال رحلاتنا والسيدة فيروز الى الخارج، وخاصة الرحلات الطويلة. ثم سقطت أكثر من مرة. واكتشفنا أنه إضافة الى شح نظرها، فإن سمعها خفّ أكثر. لم تعد السماعة التي وضعتها في إحدى أذنيها كافية، فوضعت سماعة ثانية في الأذن الأخرى. وحين كانت لا تسمع، برغم السماعتين، كانت «تمثّل» أنها سامعة. تماماً مثل «أبو مرعي» في اسكتش يا بو مرعي "وسمعه التقيل". هكذا، أهديتها جرساً من رحلتي إلى غزة كتب عليه «القدس». فكانت تستخدمه في مناداة الخادمة وتسعد بهزّه كل مرة اكون معها، كنوع من التنكيت.
فجأة، شاخت بديعة. لم تعد تلبس إلا الأسود من الثياب. خسرت نصف وزنها أو أكثر. امتنعت عن الأكل والشرب كما ينبغي، والأهم، امتنعت عن الخروج. باءت كل محاولات عائلتها ومحاولات فيروز ومحاولاتي للترويح عنها بالفشل. زياد أيضاً كان «يشقّ» عليها، كونها أيضاً جارته، يحاول إخراجها من صدفتها ... دون جدوى. كانت تحبه مثل ابنها. «قوليلي هلق هوي مغروم ولا لأ؟ خلص بقى. لازم يتجوز ويجيب ولاد». كنت أبتسم لصدى كلام فيروز تردده "بدّوع".
كانت تبتسم ابتسامتها الواسعة حين أطلّ عليها. ثم ترافقني الى الباب حين أنصرف، وهي تحذّرني «انتبهي ما توقعي». فقد كانت قد وقعت أكثر من مرة قبل سقوطها الأخير يوم السبت الماضي. لكن، في المرة الأخيرة، وللمرة الأولى، قبلت بديعة أن لا تنهض وترافقني الى الباب. بعدها بيومين سقطت على الدرج، ثم دخلت في غيبوبة لم تصحُ منها. غيبوبة، أزعم أنها كانت تشتهيها وتريدها.
مؤخراً، أضربت بديعة عن الحياة، كانت تريد الذهاب.
وأمس، ذهبت الى حيث أرادت وهي غافية.
من يدري؟ لعلها لا تدرك بعد ... لعلها ستعلم حين تفتقد رنين الهاتف الثالثة تماماً بتوقيت فيروز.

التعليقات
صورة المستخدم
1500 حرف متبقي
صورة المستخدم

احمد مسلماني احمد مسلماني - 12/21/2013 11:49:50 PM

آسف ست بديعه للامس فقط لعلمت انك رحلت و بالصدفة عندما كنت ارد على بعض المتطاولين على الست بعد مقابلة الاستاذ زياد في نشرة الميادين . لا ادري اذا كان هذا الموقع المناسب لارثيك فيه ولأعزي الست برحيلك لكنه المجال الوحيد المتاح لي بعد ان كنت انت حلقة الوصل الوحيدة بيني و بين الست . كنت رفيقة دربي الى و من منزل السيده فيروز ثلاثة عشر عام رافقتني مرت السنين وهاجرت الى الولايات المتحدة الامركيه كنت انت اخر الاصدقاء اودع قبل سفري حين كنا عائدين من بيت الست بالرابيه. ست بديعه في جعبتي الكثير لاقوله عن وفاءك واخلاصك ونصحك لي لكن اصدقائك و محبيك كثر ومنهم من ابرع مني في الكتابة عنك ايها الجندي المجهول فعلاً و قولاً لا يسعني الان الا ان اطلبك لك الرحمه المغفره ارقدي بسلام وانا لله وانا اليه راجعون

اضف تعليق جديد
انقر للتصويت
صورة المستخدم
1500 حرف متبقي
صورة المستخدم

مجهول - 1/6/2014 11:47:59 AM

لا اعرفك. ولكني لمست حزنك فأحببت أن أعزيك. اما بالنسبة لصلة الوصل.. فزهلا بك حين تعود .. مودتي

اضف تعليق جديد
انقر للتصويت
صورة المستخدم
1500 حرف متبقي
صورة المستخدم

مجهول - 12/21/2013 10:35:54 PM

ألف شكر على هذا المقال الصادق الإحساس. صورة السيدة فيروز مع "البرنيطة" بغاية الروعة، ونظرة السيدة بديعة لها تقول الكثير. عذراً عن سؤال "حشري": كنت يا سيدة ضحى المسؤولة الإعلامية للسيدة فيروز، فهل انت في الصورة خلال الإحتفال في الأردن؟

اضف تعليق جديد
انقر للتصويت
صورة المستخدم
1500 حرف متبقي
صورة المستخدم

مجهول - 1/6/2014 11:49:33 AM

لا يا عزيزي. ايام هذة الصورة كان عمري ربما عشر سنين او اقل. لكنها من ارشيف بديعة رحمها الله. مودتي

اضف تعليق جديد
انقر للتصويت
صورة المستخدم
1500 حرف متبقي
صورة المستخدم

جمال جبران جمال جبران - 11/30/2013 6:58:56 AM

بديعة يا ..ضحى

اضف تعليق جديد
انقر للتصويت
صورة المستخدم
1500 حرف متبقي
صورة المستخدم

مجهول - 12/1/2013 4:59:25 PM

جميل يا جمال... لازم تزور صنعاء.. مودتي

اضف تعليق جديد
انقر للتصويت
صورة المستخدم
1500 حرف متبقي
صورة المستخدم

جمال جبران جمال جبران - 12/3/2013 2:20:48 AM

لا بد من صنعاء ولو طال السفر :)

اضف تعليق جديد
انقر للتصويت
صورة المستخدم
1500 حرف متبقي
صورة المستخدم

مجهول - 11/28/2013 1:43:16 PM

مقالة رائعة وانسانية بامتياز

اضف تعليق جديد
انقر للتصويت
صورة المستخدم
1500 حرف متبقي
صورة المستخدم

مجهول - 11/27/2013 2:29:19 PM

نشكر الله انو في قلم يكتب كل هالاشيا تسلم ايدك يا ضحى تحياتي

اضف تعليق جديد
انقر للتصويت
صورة المستخدم
1500 حرف متبقي
صورة المستخدم

مجهول - 11/27/2013 10:53:29 AM

لكن وفاة رؤوف "أخيها"الأصغر، وهو مثلها لم يتزوج، كانت أكثر من قاسية. هذا الموت جعل بديعة تهرم فجأة خاصة بعد "أخيها"الآخر معروف، اخر الأحياء من عائلتها الصغيرة.

اضف تعليق جديد
انقر للتصويت
صورة المستخدم
1500 حرف متبقي
صورة المستخدم

فينيئي فينيئي - 11/26/2013 7:19:42 PM

رائع يا ضحى .. اخدتينا على مطارح منشتهي ومنحلم ندخل عليها .. كنا نشوفها من ورا الكواليس واحيانا بس ايديها هيي وعم ترمي طرف الفسان عالارض .. طرف فستان الملكه اليوم بدّوع حضرت قدامنا بكل كواليسها. بتمنى ترقد نفسها بالسما بسلام .. بدّوع ...

اضف تعليق جديد
انقر للتصويت
صورة المستخدم
1500 حرف متبقي
بديعة الاعور بالنظارات تاكل كاتو عيد ميلاد فيروز مع جمع من الفرقة خلال الإحتفال في الأردن بدعوة من الملك حسين
الست بديعة الاعور والسيدة فيروز
شاركونا رأيكم