توزّعت الأيام التي قضتها «الأخبار» في بلدات القلمون السورية بين مقار المسلّحين وأماكن مرابطتهم في الجبال اللامتناهية. الرحلة اليومية تبدأ في الصباح الباكر. في الخارج مجموعات متفرّقة من الشبّان المسلّحين يُمارسون تدريبات رياضية، غير عابئين بالطائرات الحربية التي يملأ هديرها الأرجاء. على الطريق الداخلي الذي يربط قرى القلمون بعضها ببعض، مقابل الأوتوستراد الدولي الذي يصل حمص بالشام، ينتشر مئات من المسلحين.
من منازل المهجّرين المنتشرة على أطراف القرى، والتي استحالت مقرّات لمجموعات المعارضة المسلّحة، تنطلق سيارات رباعية الدفع محمّلةً بعشرات المسلّحين. طرقٌ صخرية تتخبّط فيها السيارات بمواكبة الدراجات النارية الجبلية. لا شيء هنا قد يحول دون قصف هذه المواكب المسلّحة سوى «اللطف الإلهي». نحو عشر دقائق فقط تفصل عن المكمن الأوّل في هذه الجبال. هنا يتوزّع القنّاصة فوق القمم العالية، فيما يجول آخرون في حضن الصخور المتداخلة. أحد المسؤولين عن هذه الجبهة يصل لاستقبالنا. يرافقه شابٌ خرج من إحدى المغاور حاملاً إبريق شاي. يصطحبنا القيادي الإسلامي الملقّب بـ«أبو رائد» لإلقاء السلام على الشيخ. رجلٌ أربعيني يعتمر حطّة حمراء. لحيةٌ كثّة يغزوها بعض الشيب تعلو وجه الرجل الممتلئ الذي يُعلّم «المجاهدين أمور دينهم» داخل إحدى هذه المغاور. نحو عشرة شبّان في بداية العشرينات يجلسون جنباً إلى جنب يُنصتون بإمعان إلى الشيخ المكنّى بـ«أبي عبدالله». هكذا تبدأ الجولة في جبال القلمون ومغاورها برفقة «الأمير الشرعي» لهذه المجموعة المسلّحة. يقطع الشيخ درسه مرحّباً بالضيوف. «درس اليوم» يتعلّق بـ«أحكام الجهاد»، يقول، ويسترسل في الشرح: «لا يجوز للمجاهد أن يُخطئ في أمور دينه. هناك أمور مباحة أثناء القتال وهناك أمور محرّمة، وأنا دوري أن أُعرّفهم بها». نستأذن الشيخ في الجلوس، بينما يُكمل شرحه متوجّهاً إلى الحاضرين. يُردِّد على أسماعهم أحاديث نبوية في فضل الجهاد والشهادة. لا يُطيل كثيراً قبل أن يُنهي درسه رافعاً صوته بالدعاء: «يا ربّ ارزقهم وارزقني الشهادة».
يرافقنا الشيخ في جولتنا. في إحدى المغاور، يضفي الظلام الدامس جوّاً من الطمأنينة على المتحصّنين فيها. نُكمل صعوداً في اتجاه قمّة الجبل. من هناك، يُشير «أبو رائد» إلى البعيد قائلاً: «الأوتوستراد الدولي (دمشق ــ حمص) تحت مرمى نيراننا وفي إمكاننا أن نمنع الحركة عليه متى شئنا»، ثمّ يضيف متجها إلى الجهة المعاكسة: «خلف هذه الجبال تقع الحدود اللبنانية». نستفسر عن التحضيرات لأي مواجهة ممكنة ودور تساقط الثلوج على هذه الجبال في أي معركة مقبلة. لا تكاد تُكمل جملتك حتى يرتفع صوت الرجل مهدِّداً: «لن يجد حزب الله هنا سوى الموت». يتحدث القيادي الميداني عن «مفاجآت غير متوقّعة في سير المعركة إن وقعت»، لكنّه يُردف قائلاً: «لا أعتقد أنّهم قد يدخلون في هكذا مغامرة». تسأل الرجل مستفزّاً: «قلتم ذلك في القصير، لكنكم هزمتم وانسحبتم. ما الذي سيختلف اليوم؟». سؤالٌ يجيب عليه الرجلان بحدّة: «القلمون لا تُشبه غيرها. معركة القصير اشتراها الشيعة بأموالهم بعدما خاننا بعض قادتنا». وما الذي يمنعهم من شراء القلمون أو بعض قادتها كما حصل سابقاً؟. يردّ على الفور: «لم يكن في القصير إسلاميون حقيقيون. اليوم هنا جبهة النصرة والأحرار والكتيبة الخضراء والدولة الإسلامية ومئات المجاهدين الثابتين المستعدّين للموت دفاعاً عن دين محمّد». أمّا الثلج فهو في مصلحة أصحاب الأرض. يصمت قليلاً ثم يُضيف: «هذه المرة لن تكون كسابقاتها. إذا اضطُررنا سندخل لبنان لمحاربة حزب الله».
نستكمل الجولة، ونمرّ على مسلّحين من مختلف الأعمار. فتى لا يتجاوز السابعة عشرة من عمره. يقول، رداً على سؤال عن سبب وجوده هنا، إنه قدم من حلب لـ«الجهاد في سبيل الله». وماذا عن قتال إسرائيل أو أميركا؟ فيردّ بسرعة: «إسرائيل وأميركا عدوتانا أيضاً. لكن ما الفرق؟ كلّ الجبهات أرض جهاد؟».
شابٌ ثلاثيني، أصلع الرأس بلحية طويلة وشوارب محفوفة. يقول إن أعداءه هم «الشيعة وحزب الله والعلويون». ماذا تفعل إذا وقع شاب شيعي بين يديك؟ يرد فوراً: «بالتأكيد سأقتلع رأسه. سأذبحه». هنا يتدخّل الشيخ مخطّئاً: «ليس من واجبك الشرعي ذبحه، إنما تسليمه للهيئة الشرعية التي تحاكمه وتقرّر مصيره». وعن الأسلحة الموجودة لديهم، يجيب: «عندنا روسيات وقواذف اربي جي ورشاشات بي كي سي وقواذف من نوع ٢٩ نون وبنادق أم ١٦ وقناصات أم ٢٠ وصواريخ غراد وكورنيت». يُكمل مسترسلاً في سرد الأنواع: «لدينا صواريخ غراد وكونكورس أيضاً غنمناها من غزوة مستودعات مهين». هذا في ما يختصّ بالعتاد. أما بالنسبة إلى أعداد المقاتلين المتحصّنين في جبال القلمون وقراها، فتتفاوت تبعاً لتقدير كل مجموعة. وتتراوح التقديرات بين ثمانية آلاف وخمسة عشر ألف مقاتل.
أكثر هذه المجموعات خبرة ومهارة وتنظيماً هي العناصر التي تقاتل تحت راية «جبهة النصرة». لا أرقام تقريبية لأعداد هؤلاء، ويرفض المقاتلون في صفوفها الخوض في هذه المسألة، علماً أن «النصرة» التي تمثّل تنظيم «القاعدة» في سوريا تتولّى قيادة معظم العمليات المشتركة مع باقي الكتائب. بل تفرض عليهم شروطها دائماً. إذ إنها تسحب من جميع المشاركين في العملية العسكرية، إلى أي كتيبة انتموا، جميع الهواتف الخلوية التي يحملونها. وتُحظّر عليهم حملها خفيةً تحت طائلة اتّهامهم بـ «العمالة للنظام». كذلك تُحظّر عليهم تدخين السجائر في العمليات التي تُشرف عليها. ويتولّى إمارة الجبهة في منطقة القلمون الشيخ أبو مالك السوري.
يلي «جبهة النصرة» لواء «جيش الإسلام» الذي يقوده الشيخ زهران علّوش، وتُقدّر أعداد المقاتلين في صفوفه بالآلاف. ثم «حركة أحرار الشام»، وهي مجموعة سلفية جهادية قويّة تتبع لأميرها الشيخ حسان عبود (أبو عبدالله الحموي). والحركة مقرّبة جداً من «جبهة النصرة». ويشارك عناصرها في خوض معظم العمليات العسكرية في الشام وريفها. وهناك أيضاً «فوج المغاوير الأول» بقيادة عرابة ادريس المعروف بـ «أبو غازي»، وهي مجموعة تعدادها بالمئات، إلّا أنّها مجموعة قوية متخصصة في عمليات الاقتحام. وأخيراً هناك تنظيم «الدولة الإسلامية في العراق والشام» بإمرة الشيخ أبو عبدالله العراقي، «رفيق درب الشيخ أبو مصعب الزرقاوي». عناصر «الدولة» قليلون هنا، إذ إن وجودها في المنطقة حديث، ويُعرف عن مقاتليها شدّة البأس والتطرّف، علماً أنّ لديهم مقرّاً واحداً في بلدة ريما القلمونية.
مصادر التمويل ليست موحّدة. تختلف باختلاف المجموعة. جوابٌ موحّد يتكرر، يتمثّل بالغنائم من العمليات العسكرية. أمّا السلاح والأموال التي تُرسل من تركيا وحلب، فيمرّ عليها هؤلاء مرور الكرام. يُسمّي القائد الميداني لـ«كتيبة بلال الحبشي» رعد حمّادي «لواء الهيئة» التابع لحركة الإخوان المسلّمين كأحد مصادر التمويل.
ويكشف آخر أن قائد هذا اللواء يُعرف بـ«أبو طارق حربة»، مشيراً إلى أنّ مركزهم الرئيسي في محافظة حماه. وفي هذا السياق، يذكر أحد «المجاهدين» الذي يقاتل تحت راية «جبهة النصرة»، أنّ «جيش الإسلام الذي يقوده الشيخ زهران علّوش يحصل على تمويل بملايين الدولارات من المملكة السعودية». ويقول كمن يكشف سرّاً أنّ «مقاتلي جيش الإسلام هم الأكثر تسليحاً كمّاً ونوعاً»، معرباً عن تخوّفه من «احتمال أن تستغلّ السعودية هذا اللواء المجاهد مستقبلاً لمقاتلة باقي المجاهدين».
أمّا أكثر الأسماء رواجاً هنا، فإلى أمراء الجبهة والدولة وجيش الإسلام، يتردد اسم السعودي «أبو عقاب»، خبير المتفجّرات الأشهر. يُعرف عن الرجل شدّة التواضع، لكنّه في الوقت نفسه «عدائي مع غير الملتزمين».
ينقل المسلّحون هنا أنّه «الأكثر حرفية في تجهيز السيارات المفخّخة». تطلب مقابلته، فيضحك هؤلاء: «هذا أمرٌ مستحيل، لكن بإمكانك مقابلة الشيشاني وأبو مؤيد». والشيشاني لقب يُطلقه المسلّحون على عمر شركس، صاحب أطول لحية في منطقة القلمون. وهو شارك في معركة القصير ثم انسحب. ويشتهر بأنه «سرق بندقية أحد الشبان الذين استشهدوا في القصير من نوع زاغاروف». يقاتل الشيشاني في صفوف «لواء البراء» تحت إمرة القيادي مؤمن العتر المعروف بـ«أبو مؤيد». اللواء الذي يُعرف أيضاً بكنية «لواء التصوير». إذ ينقل المسلحون أنّه «في معركة آبل رفض أبو مؤيد إطلاق قذيفة البي ٩، رغم أن جنود الأسد كانوا في مرماه، بسبب عدم وجود كاميرا».

*غداً: يوميات المقاتلين في انتظار «معركة الشيعة»

يمكنكم متابعة رضوان مرتضى عبر تويتر | @radwanmortada




أهالي القلمون «أسديّو الهوى»

نبض الثورة في بلدات القلمون يعيشه المسلّحون فحسب، أمّا القاطنون في هذه المنطقة فـ«أسديّو الهوى». معلومةٌ يؤكدها معظم المسلّحين هنا. محمد سلّوم المعروف بـ«أبو سلّوم»، ابن بلدة أبو حوري (في ريف القصير) وأحد القياديين المعارضين الذي أُصيب في معارك القصير، يقول لـ«الأخبار» إنّ «معظم أبناء المنطقة موالون للنظام السوري، لكنّهم مغلوبون على أمرهم بسبب سيطرة الثوّار هنا». هذا الاقتناع راسخ لدى معظم قادة الكتائب المعارضة في منطقة القلمون الذين يستدلّون بذلك بـ«حوادث عايناها عن قُرب». بل يذهب بعضهم أبعد من ذلك، فيصف الشيخ أبو عبدالله «المواطنين الذين يدينون بالولاء للنظام» بأنهم «جيشٌ من المخبرين يخوض معارك سريّة عن رئيسه بشّار». يُعلل الشيخ ذلك بملاحظته أحياناً أنّه «لدى حصول تجمّع للثوّار، يتكرر سقوط قذائف في مواقعنا بناءً على إحداثيات لا يمكن تحديدها إلا إذا أرسلها مخبرون». أما عن المسيحيين الذين يُشكلون ثلث سكّان يبرود، فيُخبرك المسلحون أنّهم «جلبوا الويل على أنفسهم. لقد حاربنا جزءاً منهم بعدما اختاروا أن يكونوا مخبرين وشبيحة». ويضيف أحدهم: «لقد أغلقت جبهة النصرة خمّاراتهم منذ حوالى شهر بعدما أنذرتهم بالإخلاء».