مراجعة سلبية جديدة يقدّمها صندوق النقد الدولي في تقريره الحديث عن الشرق الأوسط وشمال أفريقيا. المراجعة ليست مفاجئة، أمّا التوصيف المقدّم عن الأزمة الهيكلية لبلدان المنطقة، النفطية على وجه الخصوص، وأفق البلدان الأخرى – وتحديداً الأكثر تأثراً بالأزمة السورية وعلى رأسها لبنان – فيصدم جزئياً، نظراً إلى اللهجة الصريحة والمباشرة التي لم يعتد الصندوق استخدامها. يقول خبراء الصندوق إنّ النموّ في المنطقة سيبلغ 2.25% فقط، «على أن ينتعش في عام 2014، مع تحسّن الظروف العالمية وتعافي إنتاج النفط». غير أنّ «الهوى الاقتصادي» ليس نفسه على جميع الأراضي العربية التي يتضرج بعضها بالدماء، فيما تزخر مساحات أخرى بالثروات الطبيعية. تنقسم هذه المنطقة بين منتجي النفط ومستورديه. بين المجموعتين علاقات اقتصادية راسخة تاريخياً، وإن كانت تأخذ في بعض الأحيان طابع الاستثمار السياسي. تهشّمت تلك العلاقات مع بدء موجة الاضطرابات العربية في عام 2010.

هكذا تبخّرت التيارات الحامية بين السعودية ولبنان مثلاً (على الرغم من أن أموال السعوديين في مصارف لبنان تبقى ثابتة نسبياً).
مع استمرار تلك الاضطرابات، وتحديداً «الحرب الأهلية في سوريا، والأزمة السياسية في مصر»، هناك حسابات كثيرة يجب أن تجريها الكيانات في المنطقة.
البلدان المصدرة للنفط – وهي مجموعة تُشكّل الكتلة الخليجية عصبها الأساسي – ستشهد تراجع النموّ إلى 2% فقط بعد سنوات عديدة من المعدلات العالية. صحيح أن تعافي الطلب في سوق النفط قد يحفّز الأداء الاقتصادي لتلك البلدان خلال المرحلة المقبلة، غير أنّ مشكلتها ذات طبيعة هيكلية. يتحدث صندوق النقد عن هذا الواقع بلهجة غير مسبوقة: «هناك فائض في المالية العامّة بنسبة 4.25% من الناتج المحلي الإجمالي، غير أنّه يخفي وراءه مواطن ضعف أساسية».
يشرح معدو التقرير أنّ نصف البلدان المصدرة للنفط لا تستطيع تحقيق التوازن في ميزانياتها العامّة ولديها هوامش وقائية محدودة ضد الصدمات. «معظم تلك البلدان لا تدّخر بما يكفي للسماح بمواصلة الإنفاق للأجيال القادمة عندما تنضب الاحتياطات» النفطية.
هكذا، إن لم تصحح حكومات النفط مسارها ستبدأ في الإنفاق من مدخراتها بحلول عام 2016. والحل، برأي خبراء الصندوق، يتمثل في اعتماد سياسات تركّز على أوضاع المالية العامّة، تنفيذ الإصلاحات الهيكلية اللازمة لدعم نمو القطاع الخاص، تنويع الاقتصاد وصولاً إلى تحفيز مشاركة النساء في القوى العاملة.
ليس غريباً كمّ المشاكل التي تغرق فيها البلدان النفطية ذات الصيت السيئ في إدارة مواردها. حتى اليوم، تستطيع تلك البلدان الاستمرار بحالة السكر النفطي الذي يُخفي الكثير من الشوائب الاجتماعية، ولكن في الضفة المقابلة، لا تتمتع البلدان المستوردة للنفط في المنطقة، وتحديداً تلك التي تعيش عند تخوم الأزمة السورية، بالترف النفطي وستبقى تعاني إلى حين، قد يكون موعد انعقاد مؤتمر جنيف الذي يُفترض أن يعكس توافقاً دولياً في شـأن الأزمة السورية.
في العموم، «تستمر الديناميات السياسية والإقليمية في رسم التطورات الاقتصادية في البلدان المستوردة للنفط في المنطقة. وتبقى المخاطر السياسية هي الأكبر هنا». فالصراع الذي تزداد حدّته في سوريا إضافة إلى الاضطرابات السياسية في مصر، تونس وباقي بلدان التحولات «رفعت بواعث القلق من إمكان حصول اضطرابات أكثر» في المنطقة.
يتحدّث التقرير تحديداً عن تأثر لبنان والأردن بالصراع في سوريا. «تطرح الأزمة السورية تحديات كبيرة على البلدان المجاورة» حيث يستضيف لبنان والأردن نصف النازحين، في ظلّ تزايد الضغوط الاقتصادية والاجتماعية.
في الواقع، لبنان هو أبرز البلدان المتأثّرة بالسعار الإقليمي، ويظهر ذلك بوضوح في تقرير الصندوق، وأيضاً في اللهجة الجديدة المستخدمة التي تُحذّر من إمكان تدهور أكبر قد يحصل إذا مُسّت الأساسيات التي تُبقي البلاد صامدة في ظلّ المقاطعة الخليجية، الضغوط الغربية، وطبعاً مآسي الأزمة السورية.
تأثُّر لبنان بالأزمة الإقليمية التي تفاقم مشكلته الداخلية، سيؤدي إلى أداء اقتصادي متواضع يبلغ 1.5% مقارنة بمعدل يبلغ 3.1% في البلدان المستوردة للنفط التي تشبهه. وحتى في عام 2014، سيبقى النمو على حاله لبنانياً فيما سيبلغ 2.9% في تلك المجموعة.
الأداء اللبناني الضعيف ناجم عن انحدار التجارة الخارجية التي تعتمد على الترانزيت السوري، وعن هبوط عدد السياح بنسبة 32% في عام 2012، مقارنة بالمستوى الذي كان سائداً بين عامي 2009 و2010، «تحديداً بسبب تحذيرات حكومات بلدان مجلس التعاون الخليجي لرعاياها» بعدم السفر إلى لبنان.
من جهة أخرى، تراجع معدل نمو الودائع في المصارف إلى 8% فقط بعدما كان المعدّل 18%، أما الاستثمارات الأجنبية المباشرة فقد هوت من 12.7% إلى 7%.
«يتعرّض الاقتصاد اللبناني لضربة قاسية، فيما تزداد التوترات الطائفية فيه»، يقول الصندوق؛ إذ بنهاية أيلول 2013، كان ثلث اللاجئين السوريين في لبنان، أي ما يمثلّ قرابة 19% من سكانه. «يحتاج لبنان إلى مزيد من الدعم الدولي لمساعدته على التعامل مع الأزمة السورية؛ إذ إن كلفة اللجوء تُنهك مالية البلاد التي تُعد أساساً ضعيفة وترفع الأكلاف المترتبة على الحكومة في مجال الصحة، التعليم والأمن».
أكثر من ذلك، يُتابع الصندوق: «يزيد الصراع السوري التوترات السياسية في لبنان، وتسهم في زيادة المصاعب أمام تشكيل حكومة، حيث تعيش البلاد في ظلّ حكومة تسيير أعمال منذ نيسان 2013».
كلّ هذا الكلام معروف وذكره الصندوق والمؤسسات الدولية الأخرى من قبل. غير أنّ الجديد في التقرير هو تحذيره من أنّ «ضعف الثقة في لبنان قد يؤدّي إلى تراجع تدفّق الودائع (إلى الجهاز المصرفي)، وقد يزيد الضغوط التمويلية والمخاطر التي تحيق قدرة الحكومة على تجديد دينها» في السوق المالية، أي استبدال الاستحقاقات بسندات جديدة.
«تُعد التدفقات المالية إلى المصارف، تحديداً ودائع غير المقيمين منها، ذات أهمية خاصة للبنان» خلال المرحلة المقبلة، يجزم خبراء الصندوق. «غير أنّ المخاطر الكبيرة محلياً وخارجياً تضغط على الاحتياجات التمويلية وعلى التدفقات التي يُفترض أن تُغذيها».
فإذا كان «الأكثر مدعاةً للقلق في المنطقة هو أنّ النموّ سيظلّ أدنى بكثير من المستويات الضرورية لخفض البطالة المرتفعة وتحسين مستويات العيش»، تبدو قضية لبنان أكثر بساطة، حيث إن استقراره العام رُبط منذ وقت طويل باستقرار نقدي مصطنع تحفظه الأموال التي يحولها المغتربون؛ إذا شحّت تلك الأموال فعلاً، فربما جرى الإعداد لمؤتمر دعم يُعقد بموازاة «جنيف»!



الصمود الشكلي

يُطلق صندوق النقد الدولي توقعاته وتحذيراته الجديدة في الوقت الذي يستعد فيه مصرف لبنان لتحرير رزمته الثانية من «التحفيز الاقتصادي» بقيمة 800 مليون دولار لدعم النشاط المصرفي بالدرجة الأولى والاقتصاد عموماً، ليُصبح إجمالي ما ضخه المركزي في القطاع المصرفي 2.3 مليار دولار تقريباً. التحذيرات والإجراءات غير الاعتيادية لمصرف لبنان (التي للمناسبة انتقدها الصندوق في تقريره عن لبنان في بداية العام الجاري) تُخبر الكثير عن اقتصاد يحاول الصمود شكلياً اليوم بعدما شحّت أموال السياح وأموال الاستثمارات العقارية القادمة من الخليج.