يحمل الرقم سبعة (007) مباشرة على التفكير بالعميل السري البريطاني، جايمس بوند، الذي يتمتع برخصة للقتل مدعوماً بحكومة بلاده، غير أنّ الرقم (7) هنا هو مرتبة لبنان على مؤشر السرية المالية ــ 2013، الذي تُعدّه شبكة العدالة الضريبة (TJN) كل سنتين، ووفقا لهذا المؤشر، يعدّ لبنان جنة ضريبية راسخة منذ منتصف القرن الماضي، وهو بلد يُتيح تهريب الأموال المشبوهة، التي تسير فيه بالاتجاهين: منه وإليه. لذلك يُمكن القول إنّ لبنان عميل مزدوج في عالم السرية المالية والتهرب الضريبي... ويتمتع برخصة للقيام بهذا العمل!
ابقاء العين مفتوحة

«يُعد لبنان مفاجأة جديدة في لائحة العشرة الأوائل في العالم، فهو يحل في المرتبة السابعة بعدما كان في المرتبة 22 في ترتيب عام 2011»، هكذا يتحدث تقرير شبكة العدالة الضريبية عن لبنان «http://www.financialsecrecyindex.com/PDF/Lebanon.pdf».
يعزو التقرير هذا «التقدم» في المراتب إلى التطور الدراماتيكي في تثقيل المؤشرات من هذا البلد بناءً على بيانات محدّثة من صندوق النقد الدولي. ويشير التقرير الى ان «الصندوق قال لنا إن هذا التغير ناتج من تحسن عملية جمع البيانات»، ما يعني ان لبنان كان دائما في مرتبة متقدّمة جدا على اللائحة، لكن البيانات لم تكن شفافة كفاية لتحديد مكانته في عالم «الاسرار المالية».
إذاً، يُفضي تحسّن جمع البيانات إلى تصنيف أعلى للبنان. وهذا دفع بمعدّي التقرير الى التوضيح انه «على الرغم من أنّ حصّة لبنان من خدمات الأوفشور تُعد صغيرة وفقاً للمعايير العالمية، إلّا أنّ مؤشره الخاص بالسرية، والبالغ 79 نقطة (كلما اقترب من 100 نقطة كان وضعه اسوأ)، مرتفع جداً، ما يجعله يستحقّ مركزاً متقدّماً في ترتيب المؤشر، ويفرض إبقاء العين مفتوحة عليه».
تستند شبكة العدالة الضريبية في اعداد مؤشرها إلى قاعدة بيانات هائلة، تندرج في 15 مؤشراً ثانوياً؛ والهدف قياس مدى استجابة هذا البلد او ذاك لمعايير الشفافية التي يجب ان تحكم العمليات المالية، ومن بين هذه المؤشرات الثانوية، تبرز: السرية المصرفية، ملكية المؤسسات، فاعلية الإدارات الضريبية، تشجيع التهرب الضريبي، مكافحة تبييض الأموال، الالتزام بالمعايير الدولية للشفافية... وفي جميع هذه المؤشرات يظهر وضع لبنان مزريا جدا ويساعد على اخفاء المال ومصادره ويحوّله الى جنة حقيقية للهاربين من الرقابة والقوانين والسلطات الضريبية.
جاء في التقرير، على سبيل المثال لا الحصر، ان لبنان لا يخفف على نحو كاف من سريته المصرفية، وهو لا يستخدم الادوات المناسبة لتحقيق كفاءة الإدارة الضريبية وتحليل المعلومات الضريبية ولا يتجنب سياسات تشجيع التهرب الضريبي، وانظمته لا تتوافق مع المعايير الدولية لمكافحة غسل الأموال ولكن نظامه القضائي يتعاون جزئيا مع الدول الأخرى في شأن غسل الأموال وقضايا جنائية أخرى... ويخلص الى ان لبنان عليه بذل المزيد من الجهود لردع التدفقات المالية غير المشروعة واعاقتها، بما في ذلك التدفقات الناتجة من التهرب الضريبي والممارسات الفاسدة والأنشطة الإجرامية. ويقدّم تقرير شبكة العدالة الضريبية لمحة تاريخية، بدءا من موجات الهجرة اللبنانية الاولى الى افريقيا واميركا مرورا بقضية بنك انترا وصولا الى قضية البنك اللبناني الكندي، للدلالة على ترسّخ نظامه الذي يحتاج الى اصلاح في هذا المجال.

نشاطات لا تُمارس بالخفاء

يصنّف تقرير شبكة العدالة الضريبية البلدان والمقاطعات وفقاً لمستوى السرية التي تسود فيها وحجم النشاطات التي تسجلها على هذا الصعيد. ويوضح التقرير انه «أداة مجردة من الاعتبارات السياسية، تُستخدم لفهم آليات السرية المالية على المستوى العالمي، ونشوء الجنات الضريبية، وقنوات التدفقات المالية غير المشروعة».
وبحسب معدّي التقرير «لبنان واحد من البلدان الأساسية التي تلعب دوراً مهماً في رعاية ثروات خاصة هاربة من الضرائب ــ كلياً أو من معدلاتها المرتفعة». ويشيرون الى ان قيمة هذه الثروات الهاربة في العالم تتراوح بين 21 و32 تريليون دولار. ويقولون ان مصادرها عادة ما تكون بلداناً محكومة بالفساد. اذ «إنه منذ سبعينيات القرن الماضي مثلاً خسرت البلدان الأفريقية وحدها قرابة تريليون دولار عبارة عن أموال هُربّت من البلاد لتحط في حسابات شخصيات ــ سياسية إجمالاً ــ في الجنات الضريبية. في المقابل، ترزح شعوب القارة السوداء تحت أعباء ديونها التي تراكمها الإدارات الفاسدة نفسها التي تهرّب أموال تلك الشعوب».
غير أنّ البلدان الغنية ليست بعيدة عن هذه الممارسة، يُتابع التقرير. «بلدان أوروبية مثل إيطاليا، اليونان والبرتغال وصلت إلى حافة الانهيار نتيجة سياسات السرية المصرفية والتهرب الضريبي خلال عقود».
يفضّل معدو التقرير تسمية «مناطق السرية» على تسمية «الجنات الضريبية»، ويصفونها بأنها البلدان أو الأماكن التي تستند إلى السرية لجذب التدفقات المالية غير المشروعة والاستغلالية.
ولكن خلافاً لما ينضح به التوصيف فإنّ ممارسات السرية المصرفية ليست نشاطات تُمارس في الخفاء أو تحت الطاولة بل على العكس تماماً: لقد تم تطوير صناعة كونية متكاملة تحوي كبرى المصارف العالمية، شركات المحاماة وشركات المحاسبة لكي تؤمن الخدمات المطلوبة للزبائن الهاربين من الضرائب ومن القانون، وأكثر من ذلك تعمد تلك الشركات إلى التسويق بقوة لهذه النشاطات.
إنه ذلك الجزء من العولمة المالية الفاسدة الذي تُجمع الصالونات السياسية على خطورته، سواء على المستويات الاجتماعية، كونه يُعد في جزء منه سرقة لأموال الشعوب، او على المستويات الوطنية، كونه يُهدّ استقرار اقتصادات برمتها. غير أن هذه الصالونات تبارك، في الوقت نفسه، نشاطاته في إطار حلفها مع الشركات العالمية.
ويؤكّد التقرير هذه النقطة حيث يُشير إلى أنه «منذ انطلاق العولمة المالية في الثمانينيات أضحى التنافس بين مناطق السرية سمة أساسية للأسواق المالية العالمية». ويُشدّد معدّوه على أنّ المشكلة هي أبعد من التهرب الضريبي وخسارة ميزانيات البلدان المتأثرة بعض الموارد الدسمة، «إذ إن عالم الأوفشور يُفسِد ويُشوّه الأسواق والاستثمارات ويصوغها على نحو يُفقدها الفاعلية».
هذا العالم «يؤمّن تسهيلات عديدة للمطلعين على آلياته لتوليد الثروات على حساب المجتمعات في أماكن أخرى... هكذا، عوضاً عن الاعتماد على الضرائب يتمّ إرغام العديد من البلدان على الارتهان للمساعدات الخارجية» لتمويل النفقات العامة».

البلدان الغنية متورطة

النقطة المهمة التي يركز عليها التقرير هي أنّه خلافاً للاعتقاد السائد بأن الجنات الضريبية هي عبارة عن بلدان مجهرية تتدفق إليها الأموال لكي يتم تطهيرها بمياه البحر اللازوردية أو ماء جوز الهند (في غالب الأحيان يتم التفكير بالجزر، «يكشف المؤشر أنّ أهمّ مراكز خدمات السرية المالية هي بعض البلدان الأغنى والأكبر عالمياً».
«يُظهر المؤشر أنّ البلدان الغنية، تحديداً بلدان منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية، تُسهّل تسرّب الأموال من البلدان النامية، إليها». وإذا كانت قيمة الأموال غير المشروعة التي تتدفق سنوياً عند تريليون دولار فإنّ المساعدات الخارجية التي توزعها البلدان الغنية سنوياً هي عند 130 مليار دولار فقط. «هكذا كلّ دولار مساعدات من البلدان الغنية إلى البلدان النامية يقابله تدفق عكسي بقيمة عشرة دولارات من تحت الطاولة إلى البلدان الغنية نفسها أو المناطق التابعة لها».
لدى معاينة لائحة العشرة الأوائل التي تتربع سويسرا على رأسها، يتضح أنّ هناك خمسة بلدان غنية بالحد الأدنى ــ الولايات المتحدة، ألمانيا، اليابان وسويسرا نفسها ــ إضافة إلى ثلاثة كيانات تابعة لبلدان أخرى هي جزر الكايمن، جيرزي وهونغ كونغ. كذلك هناك لبنان، سنغافورة ولوكسمبورغ وهي البلدان الثلاثة الصغيرة التي تشذّ عن المعادلة.
من هنا يُمكن فهم لماذا تبقى الدعوات العالمية لمكافحة السرية المالية والتهرب الضريبي شعارات للمؤتمرات فقط: «الاقتصادات الكبرى التي تستفيد من حركة تلك الأموال الهائلة هي التي تحدّد قواعد اللعبة». مثلا، على الرغم من أنّ المملكة المتحدة (بريطانيا) تحل في المرتبة 21 بحسب مؤشر السرية المالية «إلا أنّها تُعدّ اللاعب الأهمّ كونياً في عالم السرية المالية، حيث تدعم وتسيطر جزئياً على شبكة كبيرة من مراكز السرية، من جزر الكايمن وبرمودا إلى جيرزي (مقابل ساحل النورماندي) وجبل طارق» يجزم التقرير. «إذا تم دمج مؤشرات الشبكة البريطانية برمتها، تتخطى المملكة المتحدة بسهولة سويسرا لتحل على رأس اللائحة».
يبقى أن مواجهة آفة السرية المالية العالمية وتداعياتها الاجتماعية الرهيبة تنطلق من «تحديد مراكز السرية والبنية العالمية التي تدعمها ومواجهتها مباشرة» يختم التقرير.