بعد عقود من رأسمالية الدولة، بدأت السياسات الاقتصادية في سوريا مطلع تسعينيات القرن الماضي تتخذ طابعاً ليبرالياً يميل إلى تمكين الاقتصاد الحر، والانسحاب التدريجي للدولة من دورها الاجتماعي. وتعمقت هذه الميول مع بدايات الألفية الثالثة عبر سياسات اقتصادية جزئية وكلية اشتغلت على تحديد هوية الاقتصاد الكلي انطلاقاً من تحرير الاقتصاد والأسواق والاستثمار وحركة رأس المال. وكان هذا التحوّل يجري تحت شعار اقتصاد السوق الاجتماعي الذي ادّعت في سياق تطبيقه بعض القيادات السياسية وأصحاب القرار الاقتصادي بأنه يحافظ على مصالح الفئات والشرائح الاجتماعية الفقيرة. لكن ما كان يحصل فعلياً، هو نزع الصفة الاجتماعية عن اقتصاد السوق الذي هو بالأساس يتناقض معها. فكان ثمة تناقض واضح بين ما ينفذ على أرض الواقع، وبين تصريحات الجهات الرسمية التي تغض الطرف عن تآكل مصالح غالبية الشرائح والفئات الاجتماعية الفقيرة والمفقرة. ومن المعلوم بأنّ ملكية القطاع العام لم تكن تتعدى 35% من حجم الناتج الإجمالي المحلي، بينما حجم مشاركة القطاع الخاص ورجال المال والأعمال في الناتج المحلي الإجمالي بالأسعار الثابتة فإنه ارتفع حينها من 63،4% عام 2005 إلى 70% عام 2007، وأصبح يسيطر على 65% من الصناعة (عدا الصناعة الاستخراجية) و75% من النشاط التجاري. وكان من الضروري أن يساهم من يتحكّم بـ 70% من الناتج الإجمالي بنسبة مماثلة في الحصيلة الضريبية. لكن حصة القطاع الخاص من التحصيل الضريبي لم تتجاوز 20%، وتحديداً بعد اعتماد سياسية التخفيض الضريبي من 60% إلى 28%.
وفي ما يتعلق بظاهرة التضخم، فإنها ارتبطت وما زالت مع ميول التضخم العالمي الذي يتجلى بزيادة في عرض النقود، وارتفاع حجم الكتلة النقدية في الأسواق، وتسارع في معدلات الاستثمار الخاص، وزيادة اسمية في معدلات الأجور، وازدياد معدلات البطالة الحقيقية، وضعف القدرة الشرائية، وانخفاض قيمة العملة الوطنية، وارتفاع الأسعار وتحديداً السلع الاستهلاكية والمواد الخام والمشتقات النفطية.
أما في ما يتعلق بعوامل وأسباب التضخم فإنه يتركز حول عوامل خارجية وأخرى داخلية ويمكن إيجازها بما يلي:
1ــ تبعية الاقتصاد السوري وانكشافه على الاقتصاد العالمي، مما يعني انتقال عوامل الأزمة التضخمية إلى الاقتصاد السوري. ويتأكد هذا من خلال ازدياد الواردات التي يشمل القسم الأكبر منها على مواد مصنعة تشكل ثلثي الواردات ونصف المصنعة تشكل ربع الواردات وتدخل مباشرة في العمليات الإنتاجية، وكذلك المواد الخام والمشتقات النفطية.
2ـ ارتفاع أسعار النفط العالمي والمحلي انعكس على الاقتصاد السوري بمستويات وأشكال متعددة منها:
ـــ ارتفاع معدلات التضخم وبالتالي ارتفاع تكاليف المعيشة وخضوع المواطن لتقلبات الأسعار التي يتحكم بها حفنة من التجار.
ــ إضعاف القدرة التنافسية للصناعات الوطنية.
ــ انخفاض أرباح المشروعات الإنتاجية.
ــ عدم توازن الاقتصاد الكلي، وعجز في الميزان التجاري.
ــ ازدياد حدة الركود الاقتصادي.
3ــ تدني نسبة توظيف العائد النفطي في رفع معدلات التنمية التي ترعاها مؤسسة الدولة.
4ـــ زيادة الكتلة النقدية المتداولة في الأسواق.
5ــ ازدياد الفجوة بين حجم الواردات والصادرات.
6ــ توسع دائرة الفساد على المستوى الاجتماعي العام.
7ــ غياب العمل النقابي والسياسي الفاعل والمستقل.
8ــ انخفاض القدرة الشرائية نتيجة تراجع الأجور مقارنة بارتفاع الأسعار المتواصل، وتزداد الفجوة بين الإجور والأسعار مع ارتفاع أسعار المشتقات النفطية التي تساهم في رفع أسعار معظم المواد الاستهلاكية والغذائية الضرورية لاستمرار حياة الإنسان.
ووفقاً لتقديرات مكتب الإحصاء، فإن 59.8% من الإنفاق موجّه للمواد الغذائية، و40.2% للمواد غير الغذائية. فإذا كانت تكاليف المواد الغذائية بالأسعار الحالية للشخص الواحد تعادل 275 ليرة، فإنه يحتاج في الشهر الواحد إلى8250 ليرة سورية. أي إن الأسرة المكونة من 5 أشخاص تحتاج إلى 41250 ليرة سورية لسدّ احتياجاتها من المواد الغذائية، وإلى حوالى 47000 ليرة للمواد غير الغذائية. وبالتالي يجب أن يكون متوسط دخل الأسرة المكونة من خمسة أشخاص 88250 ليرة سورية في الشهر الواحد.
من جهة أخرى، فإن التحرير الاقتصادي المتّبع منذ سنوات عدة (تحرير الأسعار وتشجيع الاستثمار الذي انصبّ في القطاعات العقارية والأسواق التجارية بعيداً عن القطاعات الإنتاجية، والتحرير المالي، التراجع عن دعم القطاع العام، تخلي الحكومة عن دورها في قيادة الاقتصاد التنموي...) ساهم في تباطؤ الاقتصاد الإنتاجي أمام الاقتصاد الريعي، وتغيير تركيبة وملامح القوى والتوازنات الاجتماعية.
ومن المعلوم بأن القطاع الخاص غير قادر ولا يعمل في الأصل في مشاريع تنموية طويلة الآجال التي تحتاج إلى رساميل كبيرة وأرباحها ليست آنية وسريعة، فهو يعتمد على مشاريع تحمل الربح السريع وحركة دوران مالي سريع. ومن المفيد التنويه بأن استمرار العجز في ميزان المدفوعات يجبر الحكومة على تبني إجراءات انكماشية: تقليص إنفاق الحكومة، اعتماد معدلات فائدة مرتفعة، اللجوء إلى مختلف الإجراءات التي تشدد من صعوبة حصول أرباب العمل والمستهلكين على الإعتمادات المصرفية، والنتيجة المباشرة لتلك الإجراءات انخفاض حجم الاستثمار سواء في القطاع الخاص أو في قطاع الدولة، تباطؤ نمو الإنتاج.
إن التبعية الاقتصادية والانفتاح الاقتصادي، أدى في سياق تلبية مصالح أصحاب الرساميل إلى مزيد من الكوارث الاجتماعية. ومن المرجح بأن الأيام المقبلة سوف تحمل مزيداً من الفواجع الإنسانية إذا لم يتم لحظ حقوق المواطن السوري وقضايا التنمية. وهذا يستوجب التوقف عن تحرير الاقتصاد والأسواق والأسعار والتحرير المالي وضبط حرية الاستثمار وفق شروط ومقتضيات التنمية الوطنية التي تحقق الأمن الغذائي للمواطن، وإطلاق حرية العمل السياسي، والنشاط النقابي المستقل، وإعادة الاعتبار لقطاع الدولة الإنتاجي بكونه الرائد الحقيقي في النهوض التنموي. وكذلك إعادة النظر بمجمل المقررات التي تتعلق بالدور الاجتماعي للدولة، وكذلك أسعار المحروقات، كونها تنعكس على الصناعة والزراعة والأسعار بشكل عام.
* باحث وكاتب سوري