اللاذقية | وفَد الحلبيون الهاربون من جحيم الموت في الشهباء إلى اللاذقية، وعلى نحو خاص إلى منطقة الشاطئ الأزرق، شمالي المدينة. استقروا في الشاليهات والشقق. ومع تزايد أعدادهم اضطر الوافدون الجدد، من نازحين وطلاب جامعيين، إلى السكن في غرف كانت تستخدم مكاتب ومتاجر، حيث سال لعاب السماسرة والتجار، إذ وصلت أجرة الغرفة الواحدة قرب جامعة تشرين إلى 15000 ليرة سورية (نحو 90 دولاراً أميركي)، أي ثلاثة أضعاف ما كانت عليه منذ ثلاث سنوات، وضعف ما كانت عليه العام الماضي. وحيثما حلّ الحلبيون قاموا بما يبرعون به، فافتتحوا المطاعم التي تقدم أصناف اللحوم المختلفة، والطبخ الحلبي، لكن هذه المطاعم تبدو اليوم خالية من الزبائن. بعضها خلا حتى من الأثاث إيذاناً بإقفاله. يفضل الناس الاحتفاظ بما بقي من مدخراتهم للاحتياجات الحياتية الضرورية، وخصوصاً مع بداية موسم المدارس والجامعات.
منذ ستة أشهر افتُتح مطعم صغير في «شارع 8 آذار» وسط اللاذقية، وقد شهد إقبالاً كبيراً حينها. مدير المطعم زهير ملاح (35 عاماً) وصديقه الذي يقضي خدمته الإلزامية في صفوف الجيش السوري، والمجاز في هندسة الحواسيب، تعهدا هذا المطعم منذ نحو ثلاثة أشهر. يروي زهير لـ«الأخبار»: «سافرت من حلب إلى مصر، وكنت أسعى كي تلحق عائلتي بي إلى أن اتصلوا ذات يوم وقالوا: البيت تدمّر». اضطر الرجل إلى ترك عمله والتوجه نحو حلب لنقل أسرته منها، فنزح مع والديه وإخوته وعائلاتهم إلى اللاذقية وجبلة. ابن منطقة الأشرفية، الذي كان يعمل في العزيزية قبل سفره إلى مصر، يروي أن الحركة طبيعية في أغلب الأحيان في المناطق الحلبية التي تسيطر عليها الدولة، لكن القذائف التي تهطل فجأة يمكن أن تعطّلها في أية لحظة، كما أن الأسعار مرتفعة بسبب صعوبة توفير الخضر والخبز والغاز، التي يتحكم في دخولها المسلحون المسيطرون على معبر بستان القصر، الذي يقسم المدينة.
بلغ راتب زهير في مصر 150000 ليرة سورية، أما اليوم، فما يجنيه من «سيخ الشاورما» وبعض السندويشات الأخرى لا يكفيه أجرة المطعم الصغير والبيت الذي يستأجره على مقربة منه. يقول وهو يشعل لفافة تبغ ثانية: «هون ما في شي، إنسَ». رغم ذلك يفضّل «الشيف» البقاء في اللاذقية رغم أنّ عرض العمل المصري ما زال قائماً. «التوتر موجود في المنطقة كلها، ولا أحد يعرف إلى أين تتجه الأمور. الأمان والكفاف في الوطن أفضل»، يؤكد.
الرجل الذي عمل في «جميع البلدان المجاورة» يرى أنّ «اللي كان تاجر صار شوفير، واللي كان شيف صار بياع سندويش». يقول جملته هذه كأنه اعتاد تكرارها كمَثلٍ أو حكمة: «أنا بعرف تاجر دهب عم يشتغل على خط حلب ـــ اللادقية». يتابع كلامه بتسليم ورضى: «بالنسبة إلى بيتي بحلب حصيرة ما بقي، بس الحمدلله على كل الأحوال».

مراهق يعيل عائلة

قبل المغيب يسابق ولد ذو شعر أشقر السيارات. يبدو أنّه يريد الوصول إلى بيته قبل حلول الظلام. أكسبه «عمله» اللون الذي تكسبه مياه البحر لرمل الشاطئ. يدفع عربة أطفال أمامه وأخوه خلفه. داخل العربة كيس كبير مملوء بالعبوات البلاستيكية.
ترك محمد (15 عاماً) حلب منذ عشرة أشهر، لم يكمل الدراسة بعد وصوله إلى الصف التاسع. تسيطر «جبهة النصرة» على حيّ السكري حيث يسكن. يعاونه أخوه، المتسرب من المدرسة، بدوره، الذي يصغره بعامين. الأخير يسير كالتائه في ظلّ أخيه الذي يقود العربة، كأنها سيارة في حلبة سباق. يتوقفان عند كل حاوية قمامة ليجمعا ما لم يسبقهما إليه أحد من أقرانهما. «بطالع يومية بين 200 أو250 ليرة» (حوالى دولار واحد)، ما يعني دخلاً صافياً شهرياً يقل عن ألفي ليرة، بعد حذف أجرة الغرفة التي يستأجرانها في حيّ قنينص. وهذا مصروف عائلة متوسطة الحال في يوم واحد. يشرق وجهه بابتسامة حالمة عندما يأتي الحديث على ذكر جامعة تشرين، التي لن يتمكن من بلوغها أو بلوغ سواها. يعمل لأن «أبوي عاجز، متصاوب بضهرو. بس تصاوب بلبنان بغارة إسرائيلية عام 1982».
يمضي محمد، المعيل لستة أشخاص نحو «غرفة» العائلة. لعله يجد ما يسدّ رمقه، قبل أن يعود ويسير بعربته نحو «صيده» اليومي.