ترى، كيف يقضي المحكومون بالإعدام أيام ما قبل موتهم المحتمل؟ كثيرون منا لا يحسنون الإجابة عن سؤالٍ كهذا. ربما لأننا ببساطة مفرطة، لم نجرّب الوقوف على الحافة الأخيرة للحياة. وهذا سبب بديهي، كيف لا نكترث لحال الواصلين إلى موتهم عاجلاً أو آجلاً. لكن، لمن يريد أن يعرف الجواب، عليه أن يبحث عن «الفجر». ذلك الشيء الذي يعنينا لابتداء يومٍ جديد، هو بالنسبة لهؤلاء إيذان بالموت.
أمس، عند مستديرة «العدلية»، حاول أطفال صغار تمثيل حيوات هؤلاء التي تبدأ مع الفجر، في مناسبة اليوم العالمي لإلغاء عقوبة الإعدام. تلفحوا بالسواد، ولم يتركوا إلا ثقبين حول العينين. ثقبان لا يكفيان لرؤية حياة. كانوا بلا وجوه. متشابهين، حتى في طريقة موتهم بحبال غليظة تلف أعناقهم. مشوا بخطى يائسة يجرهم الجلاد الذي لا وجه له هو الآخر. وبعد دوراتٍ عدة بلا جدوى ــ تشبه يومياتهم في السجون ــ تهيأوا لموتهم. لكنهم، لا يموتون. يحررهم «النضال» منه. هكذا، أرادت الحملة الوطنية من أجل إلغاء عقوبة الإعدام في لبنان التدليل على «نضالها». لكن، شتان بين ما حدث أمس على الأرض وما يعانيه المحكومون بالإعدام وما تعانيه الدولة تالياً.
قد يكون ما حدث أمام العدلية مشوّقاً. يبعث على الأمل. لكن، إذا ما نظرنا إلى مشاريع القوانين المكدسة في أدراج المجلسين النيابي والوزاري، سنفقد حينها الأمل. ففي شباط الماضي، تقدم وزير العدل شكيب قرطباوي بمشروع حول إلغاء عقوبة الإعدام إلى مجلس الوزراء. مرت ثمانية أشهر، ولم يطرح المشروع للمناقشة، لا بسبب استقالة الحكومة، في آذار، بعد شهر من طرحه. ضبّ سريعاً، كمشاريع كثيرة سابقة، بدأتها الحملة بمشروع قانون ما قبل العام 2000 إلى المجلس النيابي، وآخر للنائب إيلي كيروز وثالث تقدم به عشرة نواب في العام 2008 وغيرهم الكثير. وجميع هذه القوانين لم تطرح للمناقشة. وقد يصبح السبب مفهوماً أكثر، عندما نعرف أن الدولة اللبنانية لا تزال واحدة من الدول القليلة جداً التي جمدت عقوبة الإعدام ولم تلغها. وإن كانت الدولة أقرت تعديلاً لقانون تنفيذ العقوبات في العام ٢٠١١، بحيث منح قاضي تنفيذ العقوبات حق تحويل عقوبة الاعدام الى السجن المؤبد، شرط ارتباطها بحسن السلوك والتعويضات الشخصية واعلام اهل الضحية، إلا أن هذا التعديل لم يطبق بعد بحق هؤلاء المحكومين، والبالغ عددهم 54 محكوماً.
برغم هذا الواقع الثابت على حاله من الجمود، «لا بد من النضال»، قالت أوغاريت يونان، ممثلة الحملة الوطنية في المؤتمر الصحافي الذي عقد أمس في إحدى قاعات المحكمة في قصر العدل. يونان، ومجموعة من الناشطين الذين بدأوا قبل 16 عاماً هذا النضال، لا يزالون في البداية، إذ ليس من السهولة بمكان إقناع الناس. فكيف ستقنع أهالي الضحايا بأن الجريمة لا تلغى بجريمة أخرى؟
ليس سهلاً. لكن، لو استند هؤلاء، والدولة معهم إلى الأساس الذي يقول إن«الجريمة لا تعالج بجريمة أخرى»، لكان الوصول إلى إلغاء العقوبة أمر مفروغ منه. ثمة حاجة إلى الإقناع «لا تتحقق بفترة قياسية»، تتابع يونان. وللإقناع وسائل، منها أن «القتل لا يلغي الجريمة إنما يلغي قاتلاً». وما تفعله الدولة بتطبيقها حكومة الإعدام لا يصنع العدالة. فهي تقتل. يعني أنها تفتعل جريمة... وجريمتان لا تصنعان عدالة. هكذا، يقول وليد صليبي.
باختصار، عندما تقتل الدولة لا تعالج. ولهذا السبب، ثمة حاجة ماسة لنسف الوهم «الراسخ»، بأن ثمة رابطاً بين عقوبة الإعدام وتخفيف نسبة الجريمة. وفي هذا الإطار، يشير وزير العدل شكيب قرطباوي إلى أن التجارب «أثبتت أن العكس هو الصحيح، ففي كندا مثلاً، انخفضت نسبة الجريمة بعد عامٍ واحد من إلغائها عقوبة الإعدام». وهذا ثابت في أماكن أخرى، وقد تكون إيطاليا هي الدليل، وهي الدولة الأولى التي ألغت العقوبة. ثمة أمثلة أخرى، في المقابل، تكساس الأميركية مثلا. هذه المدينة التي يكثر «مجرموها» بقدر ما تمارس هي فعل القتل.
ولا يقف الإقناع عند هذا الأمر، فهناك الكثير من الأسباب، لعل أهمها مسألة «الحق بالحياة التي هي أول حق من حقوق الإنسان والتي هي فوق القانون». ومن هنا، تأتي حاجة ماسة أخرى «لأن لا تكون صلاحية القتل في يد أحد». وربما، من أعطى الحياة هو الأجدر بأخذها، ولا يمكن أن تؤخذ بمرسوم. هذا أولاً، أما ثانياً، فهي التي تتعلق بأسباب الجريمة، وقد تكون اسباباً اقتصادية او اجتماعية او نفسية وهذه «ليست مسؤولية القاتل وحده، هي أيضاً مسؤولية المجتمع والدولة». ولذلك، على الجميع تحملها. هذا ما تقوله يونان.
وعلى هذا الأساس، مطلوب إلغاء العقوبة. وهذا لا يعني «أننا لا نرفض الجريمة بل نرفض معالجتها بجريمة أخرى». تقول منسقة النشاط هلا أبو علي. هل تعرفون ما الذي يعنيه هذا التعبير؟ يعني بأنه بقدر الحزن على الجريمة الأولى، يجب أن يكون الرفض للجريمة الثانية راسخاً. وقد يسأل البعض كيف نقتص من قاتلينا؟ وسيكون الجواب «بالقانون، وهناك سبل كثيرة منها السجن المؤبد والأشغال الشاقة...». هذه كلها تبقى أفضل من الإعدام لسبب واضح.. أن مراسيم الإعدام هي مراسيم قضائية ــ بشرية. والأخيرة قد تحتمل الخطأ، وهو ما لا يمكن تصحيحه. فماذا لو تبين بعد وقت من الموت أن «المجرم» كان بريئاً؟ كيف نعود عن خطئنا؟ هل يوقظ الاعتذار الموتى؟
لكل هذه الأسباب، «لا للإعدام»، تقول سفيرة الاتحاد الأوروبي أنجلينا إيخورست. سفيرة الاتحاد الذي وضع شرطاً لقبول الدول في منظومته بأن تكون ملتزمة بإلغاء عقوبة الإعدام. وهو ما شدد عليه المحامي الفرنسي ريشار سيديّو الرافض بقوة للإعدام «الذي لا ينال إلا من الفقراء».
وللصغار الذين شاركوا في الدعوة لإلغاء الإعلام آراء، منهم من تلاها على المنبر مؤكداً على الدعوة. ومنهم من كتبها رسالة للمحكومين وأودعها الصندوق علها تصل إلى هناك. إلى المكان الذي لا يصله النور.