تقف جدارية مريم العذراء في الطابق الارضي في المتحف الوطني بعدما جرى ترميمها بهبة من مي ميقاتي، وصلت قيمتها الى 65 الف دولار. حفل افتتاحها، البارحة مساءً، كان برعاية وزير الثقافة كابي ليون، وشارك فيه كل المهتمين بشأن الآثار في لبنان من شخصيات وأهل اختصاص.
الجدارية في المتحف الوطني تكشف عن الفن المسيحي الذي كان منتشراً في أرجاء كنائس العاصمة قبل 800 سنة، وهي صورة مريم العذراء حاملة الطفل يسوع، وكانت تزين جدار كنيسة مهدمة اكتشفت سنة 1941 قرب الجامع العمري في وسط بيروت. في حينها رُفعت الجدارية ووُضعت في مخازن المتحف الذي كان قيد الانشاء، لاحقاً، رممت الجدارية وعرضت في الصالات.
تشرح مديرة المتاحف في المديرية العامة للآثار، آن ماري عفيش، أنه «خلال الحرب، دخلت التحفة الفنية الى الأقبية وبقيت هناك حتى 2013، حينما قررت المديرية العامة للآثار ترميم القطعة، وحينما تقدمت ميقاتي بعرض التمويل، اختيرت الجدارية لإعادتها الى المتحف». ويشرح الخبير في ترميم الجداريات جورجيو كابيروتي «بأن إنجاز المهمة تطلب 70 يوما من العمل، جرى خلالها استبدال الدعامة الإسمنتية بأخرى مصنوعة حديثاً خفيفة الوزن وقوية البنية. كما رُممت الرسوم التي باتت تبرز تاريخ القطعة بأكمله، ففي المرحلة الاولى هناك الرسم الذي يعود تاريخه الى 800 سنة، الذي يصور في اسفل صورة العذراء الشخص المتبرع: ذلك الشخص الذي دفع كلفة رسم الجدارية في القرون الوسطى. فدخل هذا المتبرع التاريخ بعدما صوره الرسام، لكن وجهه بلا ملامح. عملية الترميم السابقة، غيرت ذلك الواقع وأعطت المتبرع ملامح، وأضافت الالوان حيثما نقصت، كما كان معتمداً. أما ترميم اليوم، فيكتفي يتثبيت القطعة، وبإبرازها بكل فتراتها منذ إنجازها حتى عرضها».
أهمية جدارية العذراء مريم هذه تكمن في العثور عليها في العاصمة. فقبل ذلك الاكتشاف، لم يكن مؤكداً أن كنائس بيروت الصليبية كانت مزينة بالجداريات، فهذه الاخيرة محافظ عليها في بعض من كنائس الجبل والشمال. وكان الاهتمام بهذا الفن قد بدأ منذ القرن الماضي، وجرت دراسة الجداريات لانها رسوم تتبع الفن البيزنطي، وأنجزت على يد فنانين محليين، لكن، هذا الواقع لم يكن كافياً ليعمل كل من البطريركية المارونية ووزارة الثقافة على نحو مكثف على المحافظة على هذه الجداريات المهددة. الرطوبة العالية في الكنائس القديمة كانت السبب الاول في تدهور حالها، وأما جهل سكان القرى لأهميتها، فكان أسوأ من ذلك. فحينما كانوا «ينظفون» الكنائس، كانوا يقتلعون الجداريات!
خوفاً على هذا التراث الفني المهم، قررت نخبة من أهل الاختصاص أخذ واقع المحافظة على الجداريات على عاتقها. الخطوة الاولى كانت في إقامة جمعية تعنى بالحفاظ على هذا الارث وترميمه وتثبيته، وجهدت الجمعية لتؤمّن سنوياً المبلغ الضروري لترميم كنيسة مارونية كانت ام ارثوذكسية. وكانت جمعية فيليب جبر الداعم الأول لهذا المشروع، والبداية كانت في مغارة كفرحلدا. واليوم بعد سبع سنين على بدء العمل، أُنجز ترميم وتثبيت جداريات ستّ كنائس. ويشرح كريستوف شميلفسكي، نائب مدير قسم ترميم التحف الفنية في جامعة وارسو، ومدير الفريق المرمم في لبنان، «أن الفريق سيطلق في السنة المقبلة ولخمسة اسابيع متتالية العمل في كنيسة مار فوقا في اميون، بعدما أنجز هذه السنة العمل في كنيسة سيدة الخرايب في كفرحلدا».
وتقول الدكتورة ندى حلو، العضو المؤسس للجمعية «إن الترميمات شملت حتى الآن ستّ كنائس، وسمحت بدفع عجلة دراسة هذا الفن الى الامام، لأن الرسوم باتت واضحة، ويمكن دراسة معايير الرسم المتبعة. وتلتزم الجمعية بترميم كنيسة سنوياً، كنيسة مار فوقا أتت بدعم من البطريركية للروم الأرثوذكس في جبل لبنان».
الخطوة الثانية في الترميم أتت من شركة Conservation، التي جهدت لاربع سنوات متتالية في ترميم جداريات كنيسة بحديدات (جبيل)، من الاهم في لبنان. وتقول إيزابل سكاف مديرة الشركة، إنّ العمل في الكنيسة لم ينحصر في ترميم الجداريات، بل توسع لدراستها فنياً وتقنياً، وترميم الكنيسة لضمان المحافظة عليها. خلال عملنا أخدنا عينات من هذه الآثار لتدرس في مختبرات ايطاليا، بهدف معرفة تقنية الرسم المتبعة. وتبين أنها من تقنية الفريسكو، التي تعدّ من الاصعب على الاطلاق. وتبين الدراسات أنّ هؤلاء الرسامين كانوا يتقنونها بامتياز، ولم يستعملوا في الصور إلا خمسة الوان فقط، عرفوا كيف يمزجونها ويلعبون بالاضافات للحصول على كنيسة تبدو رسومها ملونة بكل الالوان. هؤلاء الفنانون كانوا يتقنون فن الرسم، واختيارهم لإبراز الشخصيات على نحو قد يبدو ساذجاً، بل هو أسلوبهم الخاص الذي لم ينحصر في لبنان فقط كما هو معتقد، بل نجده في سوريا وقبرص أيضاً».
هذا التراث المهم يسلط الضوء على حقبة من حياة مسيحيي لبنان لا تزال مجهولة، فمن هم هؤلاء الرسامون؟ كيف عاشوا، هل التقوا غيرهم بتوجهات فنية اخرى؟ فقبل سنين عُثر في دير مار سركيس وباخوس في كفتون على جداريات أعادت خلط اوراق دراسة هذا الفن، إذ أبرزت أن رسامين غير محليين عملوا في هذه الكنائس، وتركوا رسومهم تخبر عنهم، وهي تحمل بصمات فن بيزنطي يشبه ذلك المعروف في إسطنبول. لذا، تطرح التساؤلات الكثيرة التي يصعب الاجابة عنها دون خطة عمل واحدة. ففرق ترميم الجداريات تعمل على نحو منفصل، كل على حدة، وكل بحسب مدرسة مختلفة في الترميم، ودراسات مختلفة في النتائج، لكن المهم جداً ان هدفهم واحد: إنقاذ تراث مسيحي محلي تسمح دراسته بالتعرف الى حياة مسيحيي لبنان في القرون الماضية. هدف لم تعدّه سابقاً البطريركيات او وزارة الثقافة من أولويتها!