كثيرون فجعوا بعائلاتهم التي محاها بحر إندونيسا. سنسمع حكاياتهم الكثيرة المؤلمة، ولكن، ربما، تكون قصة حسين خضر هي الأكثر إيلاماً، الرجل الذي عاش فائضاً من الأبوة، وعاد من البحر يتيماً بلا شيء. وهذا مؤلم. فهو لم يفقد واحداً ولا اثنين ولا ثلاثة. فقد تسعة. ولكم أن تتخيلوا الفقدان بهذا الكم ودفعة واحدة. ولكم أن تتخيلوا كيف ماتت عائلة خضر.
عندما تناثرت أجزاء العبارة، ضاعت القربى. أخذها الموج. هكذا، تفتتت عائلة خضر. لم يبق في حضنه إلا الطفلة الصغيرة. راح سبعة وأم. مع ذلك. ناضل لأجل الوحيدة بين يديه. حضنها وسبح بها نحو الشاطئ. كان، كلما سبح قليلاً، توقف ليسمع قلبها. لم يعرف كم بقي من الوقت هائماً في البحر، لكنه يعرف أن صغيرته «بقيت حيّة حتى وصوله إلى الشاطئ»، يقول إيهاب خضر، ابن عمه. فرح، لكن فرحه لم يطل طويلاً. أطفأت الصغيرة عينيها بين يديه. ماتت مطمئنة ربما، على عكس الصغيرة التي كانت متدلية من بين يدي رجل الإنقاذ الإندونيسي. ماتت بعينين مفتوحتين كسمكة. غرقت بلا حضن. فقد خضر ابنته بين يديه. مع ذلك، لم يفقد الأمل. كان في باله أن يبقى له من العائلة شيء، لكنه، عند الشاطئ في اللحظة التي فارقت فيها طفلته حياتها، واستدار بوجهه باكياً، وجد ثلاث حيوات من عائلته وقد انطفأت هي الأخرى: زوجته وطفلان. أيقن أن «العائلة لم ينج منها أحد»، يتابع إيهاب.
خضر، القابع الآن في أحد فنادق القرية القريبة من مكان الحادث، لا يريد العودة إلى لبنان. لأنه «لو كان بلدي يريدني، لما تركني وترك أولادي في مهب الهجرة والموت»، ينقل إيهاب عنه. وينقل عنه أيضاً أنه «انتحب كالنساء». يردّد أسماءهم بلا طائل.
كل المفجوعين يفعلون الشيء نفسه. ينتحبون ويروون قصصاً لم يتأكدوا كفاية منها، لكنها تحلو لوجعهم. كقصة منال، العروس ابنة التسعة عشر ربيعاً، التي ركّب الأهل صورة موتها، عطفاً على الصورة التي أرسلتها قبل غرق العبارة بقليل. سيقولون، وهم متأكدون، إنها ماتت وهي تحضن طفلا. وهناك، لا أحد سيكذّب خيالهم. الكل يركّب صورة موت الأحباء. قد يتخيلون صراخهم أيضاً وطريقة موتهم. ولن يلومهم أحد.
ريم. وفاء. علي. أحمد. رواء. ملاك. رنا. مريم. رنا. علي. مايا. منال. بعض من أسماء كثيرة ابتلعها بحر غريب. إلى الآن، لا عدد محدداً عن المغادرين إلى الله، لكن، يمكن تقدير أعدادهم استناداً إلى اهلهم في قراهم وبعض الأسماء التي تأتيهم من الناجين. وبحسب رئيس بلدية عكار أحمد درويش «عرفنا ضحية واحدة من فنيدق وناجٍ أيضاً و17 ضحية من قبعيت و3 ناجين منها وحوالى 4 أو 5 ضحايا من خريبة الجندي وضحية من مجدلا». ومن طرابلس، يمكن إحصاء 10 ضحايا من بابي التبانة والرمل. ويقال من مشمش، لكن إلى الآن لم يحص ضحايا من هناك. أما العائلات التي خسرت أبناءً لها، فهي عائلات خضر وأسعد وطالب والراعي وحمزة وعباس. هؤلاء المفجوعون ليسوا وحيدين، ففي البحر غرقى لم تمنح الأمواج فرصة لانتشالهم. وقد يأتون في ما بعد، وقد نسمع أخباراً عن قرى أخرى.
بطبيعة الحال، عبارة إندونيسيا التي حملت كل هذا الموت كادت ألا تكون الأولى، فثمة مغادرون كثيرون قبلها لم يعرف بهم إلا أهل عكار. هاجروا بتلك الطريقة «الخطرة» ووصلوا. ولهذا، تشجعت عائلات بأكلمها للرحيل. هرباً من اليأس أولاً وطمعاً بالأمل ثانياً. أما وزارة الخارجية والمغتربين والأجهزة المعنية الأخرى، فلم تعرف عن الهجرة اللاشرعية إلا عبّارة إندونيسيا. ولو عرفت، فهي لا تتقن إلا نقل الجثامين عندما تقع الكارثة. لا أكثر من ذلك.
وإن كان لا بد من توضيح ما يجري في عكار لهؤلاء المعنيين، فعبّارة إندونيسيا هذه هي العبارة الخامسة. هذا ما يقوله أهل عكار. وفي هذا الإطار، يذكر درويش وإيهاب خضر أن ظاهرة الهجرة غير الشرعية عبر البحر من إندونيسيا بدأت مطلع آذار الماضي. وكانت تجري عن طريق «النبع» عبد الله ط. وهو «الذي كان يتواصل مع المعنيين في إندونيسيا»، يقول درويش. وللتوضيح أيضاً، قبل أسبوع واحد، وصلت عبّارة إلى جزيرة كريسماس. وكان ابن رئيس البلدية أحد الواصلين إلى هناك. هذا ما يؤكده درويش. هذا الرجل الذي «راح قلبه» مع ابنه، ابن الـ17 سنة، إلى تلك الجزيرة التي لا يعرفونها، يقول إن ابنه اليوم «دخل المدرسة». وقد ذهب معه على متن الرحلة «شباب من قبعيت وحرار وفنيدق». ومن الضنية أيضاً راح الكثيرون ومشمش. ويقدر درويش العدد الواصل إلى الجزيرة «بحدود 150 شخصاً، وأنا أعرف تسعة أشخاص وصلوا أخيراً إلى أوستراليا». ويضيف إيهاب إن «في إندونيسيا العشرات من الأشخاص منذ أشهر عديدة ينتظرون ترحيلهم إلى الجزيرة، وللمصادفة أن بعضهم موجود في الفندق نفسه الذي تنزل فيه عائلات الضحايا».
قليلون منهم عادوا إلى لبنان. وبحسب درويش «هم يفضلون البقاء على الجزيرة أشهراً أو في إندونيسا، وعدم العودة لأن هناك أفضل». هذا الرجل «الشاعل قلبه» على ابنه لم يرفض طلب الأخير بالرحيل. هو يبرر في أحيان كثيرة لأن «هناك أفضل من هنا». وعندما نسأله ماذا لو كان ابنك في عبارة الموت؟ يجيب «مع ذلك أفضل من البقاء هنا». إلى هنا، وصل اليأس. إلى حدود تقبل الموت على البقاء في بلد يتزاحم الناس فيه على قوت بالكاد يكفي.